Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
حليمة مظفر

تحريم «المطبعة» باستثناء اليهود.. جريمة «العُثمانية»!

A A
كثيرون لا يعلمون أنه بعد اختراع المطبعة عام 1436م على يد الألماني يوهان غوتنرغ؛ فإن أول كتاب تمت طباعته في الدولة العثمانية التي سيطرت على العالم الإسلامي العربي 600 عام؛ هو كتاب «التوراة» وتفسيره عام 1494م، ثم «مبادئ تعلم العبرية» وتوالت طباعة الكتب اليهودية فقط؛ بدأ ذلك في عهد السلطان بايزيد الثاني في القرن الخامس عشر، والذي رفض آلة المطبعة وطباعة الكتب في الأراضي الخاضعة للعثمانيين باستثناء اليهود الذين حصلوا على موافقته باستيرادها من أوروبا، ربما هنا ندرك لماذا اليهود العرب معرفيًا وتعليميًا أكثر تفوقًا من العرب آنذاك، وفي عام 1610م أنشئت مطبعة مارونية في لبنان على يد رهبان وأول كتاب طبع فيها «سفر المزامير» بالعربية والسريانية، أما طباعة الكتب للمسلمين العرب في الدولة العثمانية تأخرت 300 عام بعد اختراع المطبعة.

السبب يعود إلى بايزيد ثامن سلاطين بني عثمان الرافض لاستخدامها لمعرفته بنهضة شعوب أوروبا بعدها، وجعل منعها مبررًا بعد جمعه فقهاء بلاطه لإصدار فتوى بتحريم المطبعة والطباعة كونها آلة غربية في الأراضي الخاضعة للعثمانيين الأتراك وتكفير كل من يستخدمها، وأصدر فرمانًا/ أمرًا بذلك، ويُقال أن ابنه بعده شدد الأمر بالإعدام لمن يستخدمها، وسار على النهج سلاطين العثمانيين ثلاثة قرون، بحجة الخوف من تحريف القرآن الكريم!! الحجة الوهمية التي روجتها كتب التاريخ وصدقها المستشرقون ممن زاروا تركيا آنذاك، للتبرير منع المطبعة وطباعة الكتب العربية في العهد العثماني، كي تبقى الشعوب المستعمرة غارقة في ظلمات الجهل والقهر، ولو سُمح بها لكانت سهلت كثيرًا من نشر المعرفة والعلوم وتبادل الثقافات وتداولها بين العامة في وقت مبكر، كون الكتاب المطبوع أرخص ثمنًا وأكثر وفرة من الكتاب المخطوط باهظ الثمن وقليل الوفرة، بل لو تم السماح بالمطبعة لتطور التعليم في الأمصار العربية بدلا من الاستمرار في التعليم البدائي «الكُّتاب» بينما المدارس التنظيمية تخص أبناء الصفوة والأغنياء والمدارس التبشيرية الأجنبية لغير المسلمين؛ لكن التعليم في الأساس لم يكن ضمن استراتيجية العثمانيين إلا في تركيا فقط؛ حيث التعليم الراقي والعمران المتطور الذي هو محل اعجاب السياح العرب اليوم! بنوا فيها الكليات والمدارس المعتمدة اللغة العثمانية، أما بقية الأمصاروالولايات المستعمرة فالتعليم للصفوة، والفقراء وهم الأكثرية لم يكن تعليمهم من مصلحة الدولة العثمانية، كي يستغلوهم في التجنيد بجيوشهم العسكرية!

لقد كانت ثلاثة قرون من الظلام المعرفي وتفشي الأميّة عاشها المسلمون العرب بسبب تحريم المطبعة ومنع طباعة الكتب بحرف عربي مما تسبب في التخلف الحضاري العربي بالوقت الذي كانت فيه دول أوروبا تعيش ازدهار عصر النهضة وتحضر لما بعدها.

والحقيقة لو كانت الحجة خوفًا من تحريف القرآن الكريم كما اشاعوا لكان اقتصر الأمر على استبعاد طباعة القرآن الكريم، لا أن يطال المنع الكتب الدينية أو على الأقل لا يطال المنع كتب المعارف الدنيوية ككتب الطب والرياضيات والعلوم والآداب الأخرى، فذلك من شأنه يجعلها متوفرة وأرخص مقارنة بالكتب المخطوطة، لكن المنع كان خوفًا من أن تحرض المطبعة بوفرة الكتب ورخص ثمنها في تشجيع العامة وأبناء الفقراء أن تتعلم وتطلع على ما لدى الشعوب الأخرى بحرف عربي، وهذا من شأنه لن يجعل المعرفة والتعليم حكرًا على صفوة العثمانيين! وسيؤدي إلى وعي الناس بحقوقهم وسيقاوم المتعلمون ظلم الأتراك لهم.

لقد اقترف سلاطين الترك جريمة شنيعة ضد المعرفة وتسببوا في تفشي الأميّة والتخلف الحضاري لدى الشعوب التي استعمرت أراضيها، حتى استطاع إبراهيم الهنقاري اقناع السلطان أحمد الثالث بفائدة المطبعة، وأصدر فرمانًا يجيز له تأسيس أول مطبعة في الشرق بحرف عربي ولكن في تركيا عام 1727م، لطباعة كافة الكتب باستثناء كتب الحديث والفقه والتفسير وعلم الكلام! فهذه العلوم يجب أن تبقى صعبة المنال على الفقراء كي يُمكن السيطرة على وعي الناس الديني بظل تفشي الجهل.

وبالمختصر، كثيرون اليوم من العرب يُمارسون جلد الذات في الحديث عن التخلف الحضاري العربي خلال القرون السابقة التي نهضت فيها أوروبا، وصدقوا الزعم الشائع أنه بسبب تشدد الإسلام! متناسين أن الإسلام سبب قيام الحضارة العربية وانتشارها منطلقة من الجزيرة العربية حتى ضعفت بضعف «الدولة العباسية»، وانتهت بوقوع سلطة الخلافة الاستعمارية بيد برابرة العثمانيين الترك ممن حكموا بالدم والتعذيب 600 عام، ويكفي أن نعرف بأن من يفكر باستخدام المطبعة يُحكم عليه بالتكفير ويصل به للإعدام ثلاثة قرون في الفترة التي عاشت فيه أوروبا عصر النهضة.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store