Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
شريـف قـنديـل

لماذا أكتب ولماذا أحلق بعيدا عن السياسة؟

A A
لماذا أواصل الكتابة في هذا الزمن رغم تعدد مبررات وعوامل الكآبة؟! سؤال أوجهه لنفسي بين الحين والآخر، وفي مساء كل يوم أتلقى الإجابة!

ومن الواضح أنني كلما تقدمت في السن، كلما هفوت للقص والرواية! أقاوم السهاد والقلق، وأبدأ في السرد مهما هدني الأرق، حتى أفرز ما في ذاكرتي على الورق! أفر في غربتي من محاجر الكآبة، ألوذ بسؤال أخي الأكبر، إن هرب وجه أو مشهد مني، فتطربني محاور الإجابة.. وعلى الفور أمسك بالقلم، وكأنني أعزف على الربابة!

أحلق كطائر في السماء، فوق كل ما رأته عيني من ملامح الجمال في فرنسا تارة، وفي الريف البريطاني أخرى، وفي أدغال افريقيا تارة، وفي جبال آسيا أخرى! غير أن الطائر الذي يتقمصني يحلو له كل مساء هذه الأيام أن يحلق فوق مصر.. من واديها الجديد حيث سكنت في الخارجة والداخلة وباريس والفرافرة، إلى أسوان.. ومن مطروح إلى بورسعيد.

لقد كان من حسن الطالع أنني عملت في جريدة «الجمهورية» في قسم التحقيقات بالمحافظات، ومن ثم زرتها وسكنت فيها كلها.. فلما غادرت إلى لندن ثم جدة، أتيحت لي فرصة العمل كصحفي ميداني لنحو عشرة أعوام، متجولا في عواصم أوروبا وافريقيا وآسيا.

أحاول أن أصنع بانوراما وصفية للمكان، أو أن تتحول حدقة عيني إلى كاميرا ترصد الجزئيات البسيطة، أنجح أحيانًا، وأعجز في غالب الأحيان!

وكلما حلقت بجناحي في الفضاء، شعرت بحاجتي للحكي والقص، فأخاف من تفسير ما رأيته من أحلام أو كوابيس سياسية، وفقًا لمقولة إن الحلم له جناحان.. إذا قصصته.. وقع!

ابتعد قدر استطاعتي عن السياسة، أنا الذي عجنت فيها راصدًا ومحللاً ومحاورًا ومناضلاً، وأتعامل مع أي موقف أو سؤال بكياسة «يعتبرها البعض جبنًا أو جهلاً أو غباءً» وأمضي أحلق بعيدًا عنها حتى لا يمرضني الخلاف، ولا يكويني التفسير، ولا يشيبني الموقف!

أتحاشى طوال الوقت أن اصطدم أو أتخبط في كل من أصابهم العماء، وكل من يثيرون الفرقة والفتنة، ويقسمون الشعب إلى فرق ومجموعات، ويحيلون الإخوة أعداء.

أحلق في فضاء جميل.. الأرض من تحتي، ويحلو لي أن أهبط بين الحين والآخر في الحقول.. أمر بساقية مهجورة، فيتجمع حولي الفتيان مبتهجين.. أكشف لهم الوشم أو الاسم، وأسأل الواحد تلو الآخر: ابن من؟

أنتهز الفرصة، وأعيد مع الأولاد سيرة لسعة النحل، وإعداد «الطعم» للصيد، وسعفة النخل.. صعود الجازورين لعش اليمام، ونقر الحمام بسطح الجيران.. الخير الداخل أو الخارج من الأجران.. مباشرة إلى جوف الأفران.. «الرز المعمر» والفطير «المشلتت» والعيش «القمح»، والفول «الكيزان»!

وأبدًا ليس هروبا للماضي، كيف لي أن أزيح اليمامات الساكنة في قلبي عن وكرها.. وصوتها الآن داخلي أكثر مما مضى؟! كل الحكاية أنني سئمت أؤلئك المستفيدون من الضوضاء، والذين يشوهون الحقائق بصوتهم الزاعق في كبد الأشياء!

أعود إلى حيث أنا، حيث علمتني الأنغام صفاء الرعية، وعلمتني الأغنام صبر الراعي! وما بين الأنغام والأغنام «لم طويل» من الأشجان.. مالنا ومال هؤلاء الذين يروجون للأشياء، وبعدها بأيام يظهرون وهم يمارسون عليها.. على نفس الأشياء.. كل مظاهر الشتم بل اللطم والولولة

، ثم يتحولون إلى شراح كبار فيطرحون على الناس الأجوبة قبل الأسئلة، مصرون على أنهم وحدهم «الوطن» و»العائلة»!

أحاول أن أصنع بانوراما وصفية للمكان، أو أن تتحول حدقة عيني إلى كاميرا ترصد الجزئيات البسيطة، أنجح أحيانًا، وأعجز في غالب الأحيان!

يأتيني صوت عبدالوهاب: بلبل حيران على الغصون، شجي معني بالورد هايم، في الدوح سهران من الشجون، بكى وغنى والورد نايم.. مجروح، مجروح من ساقه ومن طوقه.. من دوح لدوح سهر ونوح.. يا ليل ده طير بدن وروح.. من فرع غصنه ع الورد مال.. وراح يمين وجه شمال.

يدخل بي عبدالوهاب في دائرة الشجن، التي أهرب منها من قسوة ما أتابعه يوميًا على الصعيد السياسي.. هذا يفتي في النيل، وذاك يمارس التأويل، وهؤلاء أدمنوا التهليل، وأولئك يواصلون التطبيل.. أبتعد أكثر وأمضي إلى أم كلثوم، فأردد معها: يا قلبي لو طاب لي زمان.. وأنعم الدهر بالتداني.. تبسم الفجر في عيوني وغرد الطير في لساني.. وصرت من نشوتي أغني والليل يروي الحديث عني.. يا هدى الحيران في ليل الضنى.. قد غدوت الآن أدرى من أنا.. أنا طيرٌ رنام في دنيا الأحلام.. أنا ثغر بسام في صفو الأيام!

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store