Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محسن علي السهيمي

موائد القرآن.. تلاوة وإنصات أم استعراض؟!

A A
مَن منا لا تأخذ آيات القرآن الكريم بتلابيب قلبه، فيتأثر بوعدها ووعيدها، وبحججها، وبلاغتها، وأدلتها في إثبات أُلوهية الله وربوبيته، وتقرير أسمائه وصفاته؟، مَن منا لا تشجيه ترانيم قارئ القرآن وهو يرتل الآيات ويحبِّرها تحبيرًا؟، مَن منا لا يتعلق بقارئ ذي صوت أسيف، أو رخيمٍ، أو نديٍّ، كالمنشاوي وعبدالباسط وغيرهما؟، كلنا ذلك، بل إن الملائكة الكرام سبقونا حين تنزلوا على الصحابي (أُسيد بن الحضير) رضي الله عنه وهو يقرأ القرآن ليلاً بصوت عذب حتى دنَوا منه ففزعت منهم فرسه. ما يحصل اليوم هو أن قراءة القرآن من بعض من يسمون (قُرَّاء) تحولت عن مراميها ومقاصدها؛ فبعد أن كانت المضامين هي التي تهز وجدان السامع أولاً، ويأتي الصوت الرخيم ثانيًا، تحولت المعادلة؛ فأصبح الصوت -المصحوب بحركات بهلوانية من القارئ- يأتي أولاً، وربما كان وقع المضامين على القلوب خفيفًا، وربما لا يلامسها إطلاقًا. أمر آخر، وهو أن الاجتماع للتلاوة باعثه في الغالب مناسبات العزاء؛ حيث تُقام السرادقات ويحتشد الناس، ويؤتى بقارئ ذي صوت عذب رخيم ليتبوَّأ مكان الصدر على منبر يعلو ما حوله، ثم يبدأ في عملية (التسخين) للتلاوة شيئًا فشيئًا، ومعه تبدأ الرؤوس تتمايل شيئًا فشيئًا، وتبدأ الهمهمات تعلو شيئًا فشيئًا، حتى يصل القارئ إلى الذروة، وقتها تكون الأفهام قد طاشت، والأجساد قد بلغت ذروة الترنح، وهتافات الثناء ودعوات الحشد للقارئ قد بلغت ذروة الهياج والصراخ؛ ليس لما تضمنته الآيات من حقائق، ولا لما حفلت به من بلاغة، ولا لما بشَّرت به من نعيم، ولا لما جاء فيها من عِبَر؛ وإنما لأن القارئ قدَّم كل ما يملكه من تفاعل معها، وقدَّمها في قالب صوتي بديع، وعزَّز ذلك بزيادة في حدَّة صوته، فكان التأثر من الحشد بالصورة المذكورة. هذا يعني أن درجة التفاعل مع القارئ مرتبطة بتحسينه صوته ورفعه نبرته، ولو أنه استخدم هذه المحسنات مع آية ليس فيها وعد أو عبرة وإنما هي مجرد أحكام لحصل التأثر نفسه من الحشد، ولو أنه قرأ آية فيها وعد وعِبرة، لكنه لم يستخدم تلك المحسنات فلن تجد ذلك التأثر من الحشد. وهذا التفاعل من الحشد مع قارئ القرآن تحت تأثير تلك المحسنات -وليس لما تضمنته الآية- هو نفسه الذي يقع فيه الكثير من قراء الشعر والقصص والمقالات حينما يندفعون وراء اسم (الشاعر القاص الكاتب) بعيدًا عن مضمون إبداعه. في مثل هذه المَواطن لا تبحث عن إنصاتٍ وسجودٍ وخشوعٍ وتفطُّرِ قلبٍ، كل ما تجده صياحٌ وهياجٌ وفوضى وتهليلٌ لصوت القارئ، وأحاديث وقُبُلاتٌ على رأس القارئ ويده، وتمسُّحٌ به، وأباريقُ شايٍ -وما يتبعها- تُدار بين الحشد، بل من المضحك أن يتخلل ذلك حديث جانبي بين القارئ وأحد الحضور بين كل آية وآية. ولو أنا احتكمنا للقرآن نفسه لوجدنا التوجيه حاضرًا، ولوجدنا الأدلة ماثلة؛ فأين هؤلاء من قوله تعالى: «وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا»؟ أين هم من قوله: «ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعًا»؟ أين هم من قوله: «إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سُجَّدًا وبُكيًّا»؟ أين هم من قوله: «لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيتَه خاشعًا متصدعًا من خشية الله»؟، ولذا فما يُمارس في تلك المناسبات من فوضى (حركية صوتية..) لا يتناسب إطلاقًا مع القرآن ومبادئه وروحانيته وآدابه وتعاليمه. ثم إنه لا خلاف على تحسين الصوت بالقرآن وتحبيره -وكلنا نحب ذلك- لكن ليس بتلك الكيفية التي تكون مجالاً (يستعرض) فيه القارئ درجات صوته وتنغيماته على حساب تدبر المعاني، (ويستعرض) فيها الحشدُ درجةَ صياحه وفوضويته على حساب خشوعه وإنصاته.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store