Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
شريـف قـنديـل

بين الأرياف والمدن.. مهمة "العين" و"الأذن" في تشكيل الوجدان!

A A
على عكس أستاذي الراحل يحيي حقي، شكلت «العين» كل وجداني وإحساسي بالجمال!، كان هو أسير «الأذن» منذ طفولته، فلا قيام للأسرة كلها من الفراش، ولا فتح للشِّيش، ولا خروج الى الطريق، إلا والشمس قد علت قصبة ونصف على الأقل، فيما كان مسرح الحياة عندنا يكتمل بعيد الفجر!.

وإذا غابت رؤية العين -كما يقول أستاذي- فقد انطلق الخيال واشتط في شروده، وتوهم كائناً ما لم يكن، وكانت له تهاويل، تقيم بدل الحقيقة، حقيقة من عندها»!.

أما أنا فكنت على العكس!، اذ لم استسلم يوماً للقيل والقال، بل إنني لم أنم يوماً في سرير التأويل!..

كان أبي يرسلني ليلاً للإتيان بالمسبحة أو بالمصلاة التي نسيها على رأس الغيط هناك، عند «التدييلة»، ومن ثم عرفت خبايا وأسرار الحقول، دون أن أعتبرها عالماً من المجهول، أو غابة من غابات الرعب والذهول!.

وكانت تفسيرات أمي في الصباح، لما قد وصل لأسماعنا ونحن نيام، مليئة بالطمأنة وزاخرة بما يحفزنا للذهاب بأمان وسلام لكل الأمكنة، وفي كل الأوقات والأزمنة، فالجاموسة كانت «تَنْده» ليلاً من فرط الحليب، والبقرة التي فصلنا ابنها عنها، لم تكف طوال الليل عن الخوار بما يشبه النحيب!، والهواء، كان يضرب في الشباك، مؤذناً بدخول الشتاء، والكلاب زمجرت فعلاً بشدة عندما سمعت العواء.

يقول الأستاذ: وأنا راقد في الفراش، وفجأة بين اليقظة والمنام، تتحفز أعصابي، وكل قدرتي على الانتباه والإنصات، حين يصل أذني وسط السكون، صوت خافت مديد الى قدر، متكرر على مهل، لا أدري كيف أصفه.. أنين قلب مسكين؟ فحيح حشرة من الزواحف؟، زومان متآمر يلمظ بشهوة الانتقام؟، لا أعرف صوتا يدانيه في القدرة على بث الرهبة!.

يضيف أستاذي في شرحه لصوت «الحدأة»: تهب أمي فزعة، تستعيذ بالله.. تناشد الشر أن يبقى «بَرَّه» وتسأل في توجس شديد: ترى على من وقعت فزعة الموت، التي تنبئ عنها هذه الصرخة»!.

لقد كان من الواضح أن أستاذي يتحدث عن صوت «الحدأة» أو «أم قويق» التي كنا اذا سمعناها خرجنا نطاردها في أرجاء حديقتنا والحقول الخلفية لها، وأتذكر هنا أن صديقاً لي نجح في إجبارها على ترك فرخ صغير قبل أن تطير به وهو في فمها..هكذا كنت وكنا.. قبل وبعد فتح «الشيش» لا تخيفنا أشكال وأصوات الخفافيش.. لقد سكنت هذه الطيور السوداء في الجزء القبلي من دار «الهلايلة» والتي قيل أنها إذا لمست الوجه لصقت به الى الأبد! وكنا نهاراً نطاردها بأيدينا وبالعصي، يساعدنا في طردها صوت كلبتنا!.

ينتقل أستاذي لصوت كأكأة الغراب التي تنبئ بالفراق وتشتت الأسرة، ونعيق البوم وما يسميه بنذير عزرائيل، وما يقال عن البورص اذا تسلق جدران المنزل، فيما أتذكر صوت طائر غريد بصوته المعهود وهو يملؤني حباً وعشقاً لحلاوة الترديد.. سعال أبي «الموسيقي المحبب» عند قيامه للوضوء، وإلحاح الشيخ عرفة من بعيد..قم للصلاة.. ما قيمة الزهر المتفتح بغير طيوب؟!.

أتذكر معركتنا الموسمية مع الغربان، رغم وصايا البعض بتركها لتطهير الأرض من الديدان، فنرد الرد المعتاد.. مهلاً! كيف نساوي بين سماجة الغراب، ووداعة أبي قردان؟!..

أعود الى طفولة يحيي حقي وأقارن بين ما سمعه بأذنيه وتسبب في شعوره بالرهبة، وبطقوس الموت، وبين ما شاهدته بعيني وزادني إعجاباً وتشابكاً مع الحياة!.

يقول الأستاذ: كان صوت البومة، صوتاً مرعباً يخفق له قلبي خفوقاً مؤلماً، فقد ربيت على أنها نذير خراب، وقرب هبوط ملاك الموت على الأرض، لا يعود الى السماء، إلا وفي جعبته روح إنسان!، ويضيف: كنت أدعو الله في سري، ألا يكون المخطوفة روحه واحداً من أهلي، وكأني وثقت باستجابة دعائي، فأسأل: ترى أي الجيران سيقع عليه الدور؟، إنني أرثى له ولأهله، حتى ولو كان بعد سابع جار!.

والحق أننا أيضاً كنا لا نحب صوتها على الإطلاق -صوت البومة- لكن ذلك، لم يحل دون رصدها ودون طردها.. لنتفرغ للطيور التي تأتي لتعزف وتضبط إيقاعها على ميقات الفصول، والورود التي تسألنا الندى خوفاً من الذبول..

لقد كانت الطبيعة مكشوفة تماماً حيالي، بكل ما فيها ومن فيها، ومن ثم كنت لا أبالي!، الدبابير وذكور النحل وهي ترف فوق رأس الوردة، تمتص رحيقها، وتسعى لمطاردة الملكة، والثعبان الكبير «حارس الدار» في الليل والنهار.. البوح الحزين الذي كم سمعناه وترجمناه من فم الساقية، والعتمة التي سرعان ما تتبدد في ضوء الفجر المنفلت من يد النجمة!.

كان أستاذي يتحدث برهبة عن القوى الشريرة التي تربصت بطفولته عند الظلام، وعن صوت نبُّوت الخفير، وكنت أدرك مبكراً أن الظلام الحقيقي هو ظلام الضمير، ومن ثم لابد من التمسك بالحق والارتواء من «أكواز» النور التي رأيناها صغاراً مثبتة على رؤوس حقولنا هناك، على فوهة «الزير»!.

كنت أنهي المقال، حين خرجت الى ساحة المنزل لأشاهد بأم عيني كيف استجابت البقرة لصرخات ثلاث معزات فقدن أمهن في المساء، فاستسلمت لهن مانحة إياهن ضرعها المملوء.. والله على ما أقول شهيد.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store