Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محسن علي السهيمي

أفكار المثقفين ملغومة!

A A
أطلق ابن عساكر الدمشقي في القرن (٦هـ) مقولته المشهورة «لحوم العلماء مسمومة...»، فتلقفها البعض تلقف الظمآن للماء البارد، لتوصد بعدَها الأبواب بإحكام أمام محكات النقد بحق العلماء وفتاواهم واجتهاداتهم. لاخلاف على أن لحوم العلماء -وغير العلماء أيضًا- مسمومة، لكن بعض مريدي العلماء في عالمنا الإسلامي حملوا المقولة على المنع القطعي لأي نقد يتعلق بفتاوى علمائهم واجتهاداتهم. النقد الهادف مطلب ضروري، وحاجة ملحة لتصويب الخطأ، وتقويم المعوجِّ، وحين يكابر المنقود ويأنف من النقد فهو يحيط نفسه ورأيه بسياج القداسة والعصمة الذي لا يكون إلا للأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام. وكم كانت مقولة ابن عساكر تلك محل سخرية المثقفِين الذين يرون ألا أحد فوق النقد، وأن العالِم مهما بلغ من العلم يظل عرضة للخطأ، وأن مراجعة الآخرين لرأيه، ونقدهم لأفكاره، لا يُعد جريمة، وبالتالي -والحال هذه- فلحمه ليس مسمومًا؛ لأننا حينما نعتقد بسميَّة لحمه فإننا ننزهه عن الخطأ، ونجعله في منزلة المقدَّس، وأنا هنا أتكلم عن (النقد الهادف) لا عن الافتراء والتجني على العلماء فتلك قضية أخرى. ثم دارت دورة الزمن ووقع بعض المثقفين فيما نَهَوا عنه؛ فتراهم يكررون الممارسة نفسها التي كان بعض مريدي العلماء يمارسونها؛ فحين يبرز بينهم مثقف يبدأ أتباعه يحيطونه بإكليل من الثناء، ثم يشيِّدون حوله سورًا من الكمال، حتى يصل لسدرة العصمة التي لا يَقبل أتباعه أن تُهز شعرة واحدة في جنابه، أو تسقط قطرة حبر تمس أفكاره وإبداعه، وهو ما حدا بأحدهم أن يصف (تويتر) بأنه اختراع سيئ؛ كونه «جعل الجاهل يناقش المثقف». هذا ما يمارسه بعض الأتباع من المثقفين، لكن ماذا عن حال الرمز الثقافي الذي أوصله أتباعه لهذه المنزلة من العصمة؟.. الحقيقة أن الرمز الثقافي نفسه لا يقل تمسكًا بهذه الرمزية عن أتباعه، فهو إن بقي صامتًا؛ كون أتباعه تولوا الدفاع عنه، إلا أنه قد يقف موقفًا يجعله يخرج به عن وقاره؛ فتراه لا يقبل من النقد إلا ما حام حول الحمى، ومتى لامس النقد شيئًا من حِمى أفكاره، عندها يخلع المثقف وأتباعه ثياب المثالية. بالأمس أبدى الدكتور عبدالله سليم الرشيد رأيه في الرواية المشهورة للروائي الطيب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال) ‏بالقول: «لم أجد ما يدعو لذلك التبجيل الذي حَظِيت به»، وختم تغريدته بقوله: «‏أظن أننا نقع تحت سطوة الرأي الشائع وتأثيره، فنخشى مخالفته»، لتتتابع عليه الردود الساخطة، المسفهة لرأيه، المبجلة للرواية، وكأنها تقول إن الرمز الثقافي -متى أصبح رمزًا- فينبغي ألا يُمس إبداعه. وضمن الردود كانت هناك ردود مؤيدة أكدت أن الرشيد (قال ما بخاطرها)، وكأنها تؤكد أن لديها وجهة نظر لكنها لا تستطيع المجاهرة بها؛ بسبب (رمزية الرمز الثقافي). ولعل الدكتور جمعان عبدالكريم في كتابه (الثقافة السعودية..) أحدث ندبًا في جدار العصمة المحيط بالرمز الثقافي؛ حين تكلم فيما لم يجرؤ الآخرون على أن يتكلموا فيه؛ فرأينا له رأيًا صادمًا في شاعرية الشاعر محمد الثبيتي، ورأيناه يهدم الأسوار التي أقامها المثقفون حول محاضرة الأديب حمزة شحاته (الرجولة عماد الخُلُق..) وغيرها. إن لم يلتفت المثقفون وأتباعهم لأنفسهم، ويراجعوا حالة التقديس والعصمة التي صنعوها لأنفسهم، ويهدموا تلك الأسوار التي أقاموها حول الرمز الثقافي؛ فستغدو مقولة (أفكار المثقفِين ملغومة) رديفة لمقولة (لحوم العلماء مسمومة)، بالتالي نصبح ونمسي ونحن نتوقَّى (سُموم العلماء وألغام المثقفِين).
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store