Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
نبيلة حسني محجوب

قنوات التباعد الأسري!

A A
عندما كان أبنائي صغارا، حتى بعد أن كبروا ووصلوا إلى المرحلة الجامعية، لم يكن مسموحا بأكثر من جهاز تلفزيون واحد فقط، في غرفة الجلوس، نتشارك جميعا في مشاهدة ما يعرض على شاشته، من برامج وأخبار ومسلسلات، نساير بعضنا بعضا، لا نتذمر من متابعة ما لا يدخل في دائرة اهتمامنا، بل نتابع .بل نتابع ونظهر الاهتمام بما نشاهد، كي لا يشعر أحدنا بانزعاجنا فينصرف عما يحبه أو يغرم به، كمباريات كرة القدم مثلا، لم أكن من هواتها أو هواة متابعتها، ولم أكن أفهم ما يحدث أمامي، إلا أني أشاركهم الشغف والحماس، وأطرح الأسئلة الفهم ما يحدث.

أشعر بعد انتهاء المباراة أني اختزنت قدرا من السعادة؛ فالمشاركة بحد ذاتها طاقة إيجابية تتسلل بعذوبة، إلى النفس البشرية، دون ترهات علم الطاقة الذي أصبح موضة العصر، بعد أن فقدنا متعة المشاركة نتيجة انشغال الجميع بالأجهزة المحمولة التي توفر كافة البرامج والمسلسلات، أو التواصل الافتراضي مع أشخاص ليس بيننا وبينهم رابط، سوى هذه الصداقة الافتراضية، التي صرفتنا عن الصداقة الحقيقية وعن المشاركة الأسرية والعائلية.

تذكرت كل هذا عندما سألت عن مباراة كانت حدثا مهما كان يفترض مني متابعته، وتنبهت إلى هذه الفجوة العميقة التي أحدثتها وسائل التباعد الأسري،، فلم أعد أعرف عن المباريات شیئا، بعد أن كان بيتنا يستعد استعدادا حيويا لمتابعة المباريات، وتفرض الرغبات الفردية، مشاركة أفراد الأسرة في متابعة الحدث والتفاعل معه، ليس فقط مباريات كرة القدم، بل يحدث كذلك خلال متابعة مسلسل تلفزيوني، لا يدخل دائرة اهتمام أحد أفراد الأسرة أو أكثر، لكنه لا يرفض، ولا يمنع، تحت أي حجة، بل تجري متابعته باهتمام احتراما لرغبة فرد أو أكثر من أفراد الأسرة .

حتى برامج الأطفال كنا نتابعها، ونعلم ما يحدث فيها، الآن كل منا منفرد بهاتفه، أو حاسوبه، أو تلفزيون في غرفته، بعد أن أصبح في كل غرفة جهاز تلفزيون، ولكل فرد هاتف محمول!

أصبحت هذه الأجهزة وسيلة لإلهاء الطفل، ثم يصبح مدمنا على استخدام الجهاز، مع كل المخاطر التي يحذر منها المختصون، أما في الغرف المغلقة على الأطفال والشباب، فالخطر له أوجه عديدة مرعبة، تلك هي الكارثة الحقيقية التي أنتجت عددا من الحوادث، رغم محدوديتها في مجتمعنا، نتيجة وعي مرتفع بفضل الله لدى الأمهات والأباء الشباب، الذين يجيدون التعامل مع مختلف التقنيات، ويجيدون متابعة أبنائهم، إلا أن قطاعا كبيرا من الأطفال والشباب، لا يتمتعون بأي متابعة، أو مراقبة، فقط يعبثون بهذه الأجهزة

ليس موضوعي الخطر الذي يواجه الأطفال والشباب، وإنما ورد على سياق الحديث، لكن الموضوع الأساس هو هذه الفرقة والتباعد الذي أحدثته ما نطلق عليها، «وسائل التواصل الاجتماعي»، بينما هي في الحقيقة وسائل التباعد الأسري!

عندما تجتمع الأسرة في غرفة واحدة، تجد كل فرد منكفئا على جهازه، أصبح التلفزيون في غرفة الجلوس في معظم المنازل للزينة أو لكبار السن، لا يشاركهم فيه بقية أفراد الأسرة، فكل فرد له اتجاه مختلف، ووسائل مشاهدة مختلفة، وتواصل افتراضي مع العالم اكتر من تواصله مع أفراد الأسرة.

في المقهى والمطعم والحفلات والمناسبات، تجد الجميع - إلا من رحم منكفئا على هاتفه، يتابع أو يتواصل بينما الأجدى والأهم، هو التواصل مع المحيطين به، والجالسين بجواره، والمجتمعين لقضاء وقت ممتع مع الأهل أو الأصدقاء.

أصبح الصمت، هو الحاضر، والمهیمن، على اجتماعات الأسرة، حتى الصحف الورقية التي كانت إحدى وسائل التواصل بين أفراد الأسرة، تلاشت واختفت، ولم تعد تدخل المنازل، وتنتقل من يد إلى يد، كل فرد يبحث فيها عن الصفحات التي تغذي شغفه المعرفي أو الرياضي، الأدبي أو الفني، حتى أخبار الوفيات، كان موضوعا يغري بالقراءة، ويتم الحديث حوله، والتشارك في مشاعر الحزن، حتى دون معرفة وثيقة بموضوع الخبر، لكنه التواصل الأسري في مفردات وتفاصيل الحياة الذي فقدناها.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store