Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محسن علي السهيمي

الرئيس والإنجيل.. خيبة عربية!

A A
لم يرفع الرئيس الأمريكي المنتخب (جو بايدن) يده اليمنى لأداء اليمين الدستورية، إلا وهو باسط يده الأخرى على الإنجيل الذي بدا في صورةِ سِفرٍ ضخم، ذي أوراق تقادم عهدها، وتآكلت أطرافها، فقفزت إلى ذهني الصفة التي يمكن أن يطلقها بعض العرب على بايدن وهو يمارس طقوسًا تبدو بمنظورهم رجعيةً، وارتكاسًا في شَرَك التراث الديني. ما استقر في الذهنية الجمعية العربية هو أن أمريكا منسلخة تمامًا من عقيدتها، ولم تعد تربطها بأناجيلها روابط وثيقة تعزز انتماءها لها ووثوقها بها، وأن ما تبقى من روابط لا تتعدى كونها مجرد صلوات عاجلة يمارسها كبار السن داخل الكنائس والأديرة. أما الحكومة السياسية ممثلة في الرئيس ومؤسسته السياسية، فإن ما استقر في ذهنياتنا عنها أن بينها وبين التديُّن بُعدَ المشرقَين، وأن الرئيس ما تسنم هرم الرئاسة إلا بعد أن تطهر من تديُّنه، ولم تعد تربطه به أية رابطة ولو في أدنى مستوياتها، والواقع كما يقول (أحمد متاريك) في مقال له بموقع (إضاءات) «أبعد من ذلك؛ فالوثيقة التأسيسية لإعلان الاستقلال تحدثت عن الخالق باعتباره الراعي للحقوق»، مضيفًا إن الكاتب الصحفي بيل فلاكس «يرى أن الثورة الأمريكية على الاحتلال الإنجليزي كانت في أصولها حدثًا دينيًّا، كما أن المبادئ العامة التي أرساها الآباء المؤسسون خلال الاستقلال هي المبادئ العامة للمسيحية». في معمعة تلك الأفكار المسبقة لدى العربي ظهر بايدن باسطًا يده على الإنجيل بكل اعتزاز، ودون حرج من وصمة (الظلامية) العربية، في رسالة واضحة إلى العالَم بأن أمريكا -حكومةً وشعبًا- لها منطلقاتها الثابتة التي لا تحيد عنها، حتى وإن بدا للآخرين أنها محيِّدةٌ لها، أو متخففةٌ منها. وربما قال قائل إن أمريكا تسير وفق دساتير علمانية لا تُقيم للدين وزنًا، ولا تجعله يدخل في الشأن العام، وغاب عنه أن أمريكا حتى وإن حَيَّدتِ الدين عن الشأن العام داخل إطار الدولة إلا أن هناك موقفَين يحضر فيهما الدين بجلاء دون خجل أو مواربة: الموقف الأول- ساعة البأس؛ حين يتعرض الأمن القومي ومصير البلاد للخطر الصريح نتيجة اعتداء خارجي تحت أي غطاء كان، هنا تُزاح النظريات والدساتير ويحضر (الدِّين والإنجيل) بوصفهما المُلهمَين والمُمَكِّنَين للأمة الأمريكية في الأرض، ولعل في وصف بوش الابن لحملة أمريكا وحلفائها بأنها «حملة صليبية» دليلاً صارخًا على تجذر الدين في نفوس الساسة الأمريكيين؛ فمثل هذه العبارات لا يقف خلفها (ديوان شعر أو رواية أو أغنية). الموقف الأخير- في الأزمات الداخلية، حين حصول الفرقة والاختلاف بين مكونات الأمة؛ حيث يحضر الدين بوصفه الضامن لوحدة الأمة وفق ما ذكر (موسى الغول) في دراسة له عن تأثير العامل الديني في السياسة الخارجية للرئيس بوش الابن تجاه الشرق الأوسط؛ فنقل عن عالِم الاجتماع الأمريكي (روبيرت بللاه) أن من وظائف الدين في أمريكا «إعطاء الشرعية للأمة، خاصة بتوحيدها في أوقات الأزمات؛ حيث تتوحد الأمة لحماية وجودها.. من خلال العودة للأصول المؤسِّسة للأمة». المؤكد أن العلمانية حاضرة ومهيمنة على الدساتير والشأن العام الأمريكي، ومن الخطأ القول إن الدين هو المسيطر وأن أمريكا دولةٌ دينية، إنما يمكننا القول إن للدين وجوده ممثلاً في مرجعيته للإستراتيجيات الكبرى، وفي «عملية ضبط وتنظيم للمجتمع الأمريكي من الداخل» وهذه الأخيرة ينقلها الغول عن (إكرام لمعي)، بل إن البوابة الكبرى للغرب (سدة الرئاسة) أصبح اعتلاؤها كما يقول الغول «طقسًا من الطقوس المقدسة؛ ذلك لأنه يعيد تأكيد شرعية السلطة السياسية في الدولة، وذلك من خلال شرعيتها الدينية في الأساس». ومن هذه المحددات وغيرها يتبين مدى حضور الدين في الغرب، وحجم الخيبة عند بعض العرب عندما لم يُصادق بايدن على أوهامهم؛ فصلّى في الكنيسة، وأقسم على الإنجيل.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store