Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

"الفباريك".. رواية عثمان عابدين التي لم تكتمل

"الفباريك".. رواية عثمان عابدين التي لم تكتمل

A A
هل جربت إحساس أن ترى زميلاً لك يقع مفارقًا الحياة بين يديك.. على كرسيّه، في مقرّ عمله..

الضحك والابتسامة والونسة الطازجة كانت حاضرة هنا.. قبل لحظات..

الوعد والأمل وهموم العمل وشوؤن الصحافة.. وصفحة السياسة.. لم تغلق بعد..

يجثم الموت هكذا.. فجأة..

يمسك "عثمان" قلبه المتعب، ويشخص ببصره.. ويفارق الحياة..

كل الأحداث بعد ذلك تتسارع بشكل لا يصدق..

تكاد تكذّب عينيك فيما يجري حولك؛ لو لا راسخ الإيمان بقضاء الله وقدره


الهلال الأحمر يأتي.. يكشف.. يجس.. يتفقد.. ويعلن الوفاة..

الجميع يجري في كل اتجاه.. لإنهاء الإجراءات..

الليل يمضي في اتجاه نهار اليوم الجمعة.. ليرقد "عثمان" في لحده بمقبرة الرحمة..

ثمة حزين عميق..

ثمة إحساس بفقد رجل عزيز..

ثمة ألم على رحيل نفس تركت فرحتها و"طيبتها" في كل القلوب ومضت..

تعود..

وتمد يدك لتغلق ما تركه مفتوحًا.. لتطالع على صفحة شاشة حاسوبه رواية "الفباريك"..

هي.. إذًا.. كانت آخر ما كان يعالجه من كتابة بعد فراغه من "صفحة السياسة"..

تقرأ.. وتغالب دمعك.. وتعجب لهذه الروح المبدعة التي خبأت هذه "الوسامة" في صقيل العبارة، ولم تنل منها محرقة "الصحافة"..

"الفابريك" لكم.. طالعوا فيها "عثمان" القاص الذي يعرفه القليلون.. والروائي الذي نتعرّف إليه اليوم في مشروع لم يكتمل.. تركه لنا مفتوحًا تحت عنوان "الفباريك"..

****

رواية

الفباريك



عثمان عابدين



إُلملم كتبي .. أوراقي المبعثرة هنا وهناك.. أفكاري مشتتة.. دخلت إلى السعودية أحلم بعيش هنئ .. حطامًا خرجت في محاولة يائسة لأن استعيد شيئًا يسيرًا من إلق خبا أو كاد ..

كثيرًا ما يخدع الكاتب نفسه وهو يبني سردًا جسيمًا لأحداث عفا عليها الزمن، وتحولت إلى تراث "أي والله"؛ لكنه يتشاغل بها حتى يؤلّف رواية تغطي بالكاد تصحّر رؤيته للعالم والمحيط المتغير المتبدل اللاهث..

ضاقت نفسي وأنا أفرز كتبًا أحضرتها من بلادي لأقراها في هواء السعودية الطلق.. الزمن لم يسعفني.. أو صراحة انشغلت باللهث خلف الحصول على المال، والذي على قلّته كنتُ أخرقَ في إنفاقه.. مظنتي أننى جافيت الخرطوم.. سلوتها ذات مساء جذل طربان إلى الرياض؟؟ انحشرت في جلابية صوف بأكمام عريضة لا تقي برد المدينة.. حينًا من الدهر مكثت بها.. لكن ناداني البحر إليه؛ فأنا ابن الماء.. هي جدة؛ ولو أنها لم تساهم بدانق واحد في عملية اغتيالي المعنوي؛ لكنني كنت لا أفهم هذه "الجدة"، أماشيها وأمشى معها ولا أصل إلى شيء..

ذات مرة مضيت إلى "أضم".. تشبه في جغرافيتها "قَرِّي"، التي تقع قرب جبل الرويان شمالي الخرطوم.. لأول مرة أرى شوكًا وحسكنيتًا وضريساء وجبال مسننة وعُشَر.. ورجعت حزينًا.. ملتاعًا وباكيًا.. أنا كثير دموع.. .. ولو أدبرت ما استقبلت لكانت معادلتي الرجوع للوراء، لأرفض في عام 89 الخروج من السودان ....
  • إيْهِ..
زفر صديقي "علي" وهو يقلّب صفحات الرواية، التي أبدو غير مقتنع بها.. لنقل بتفاصيلها الدقيقة أو مفهومها الكلي.. أو حتى لغة السرد التي بدت لي متهالكة.. لقد استهلكت فيضًا كبيرًا من مخزوني اللغوي والتركيبات المدهشة.. وعندما توغلت في السرد بانت "عيوبي".. بالكاد خاصمت لغة الصحافة الفجّة.. قال لي علي:
  • .. "خلاصنا في البساطة"
واللغة جميلة السبك بسيطة مثل حبيبتى سولارا.. الأحداث تجري كما هي الحياة.. سريعة ولاهثة.. لا تعطيك فرصة لتلتقط أنفاسك وتسابقها...

زفرت..

"علي" لا يجاملني؛ لكنني في دخيلة نفسي بدأت أبحث عن الإحساس العميق في تلك الرواية.. هل هي خلاصة تجربتي، أم هي وصفٌ لحياة لم أعشها أنا؛ لكنما عاشتها شخصية أخرى.. وكل ما رأيته.. سرحان جميل.. أخيلة بعيدة طاردتها في ليالي المنافي، ولم أستطع الإمساك بها..

أنا حزين ومصدوم، دائما في حالة هلع وخوف، أكتب لأصدقائي وأرجع صفر اليدين، كما في كل شؤوني الأخرى ومآلاتي..
  • لا تقسو على نفسك..
رفع "علي" صوته المتناهي في دقته ورنينه وشاعريته.. عدّل من وضع نظارته.. شعره الأشيب الناعم مغطّى بكاب رمادي.. سنوات العمر لم تنقص سنتمترًا واحدًا من وسامته..

ويهمهم:
  • تعرف؛ فيها نفس مختلف.. في رأسي غلاف يليق بها..
واعترفت..؛ له :
  • يأتيني إحساس بأن زمن القص والسرد توقف.. بعد نصوص رائعة للطيب صالح، وجورج أمادو، وماركيز..
كان مؤمنًا بأن كلّ جيل يترك بصمته.. لكنني لا أعرف من "أي جيل أنا"..؛ لقد علقنا في تسعينات الماضى وفجر العشرين..
  • باغتني: التراكم القصصى يتمخّض عن سُرّاد جدد.. "دعك عن التقليعات" هؤلاء السُرَّاد لهم قُرّاء، وعندهم تواليف متعددة، بأوجه كثر، وأحيانًا ملغّزة..


حزمت كتبي جيدًا.. ذهبت للبحر.. هل أنا أودّعه؟؟

اهتمامي كان منصبًّا على هذه النقطة.. وأنا في الوطن البديل.. بداية تأشيرة خروجي النهائي من شاطىء جدة الممتد بصريًّا إلى أن يغيب الماء في حضن الأرض، أو تغيب هي في ظهره المنحني..

كنت أترقّب أصدقاء وصديقات حجازيون وحجازيات قد يأتون لوداعي... بائن ومختفي .. ظاهر وباطن .. متلاشى ومتشكل .. أحسست بحمى خفيفة .. هزة زنننن .. ارتعاشة..
  • قلت لعلي: اشحن لي كتبي.. يبدو أنني ساغرق في هذه الرواية..
تعجب بعض الشي "على شطحتي".. ذهب.. تركني وحيدًا على صخرة منعزلة .. الوقت غروب عند خليج سلمان... الرمال تتلاصف يغطيها شفق أحمر.. أقلّب في صفحات الرواية، أكتبها وتشغلني.. يمتد البحر أمامي واسعًا.. عريضًا، غامضًا، مثيرًا.. أسمع تلاطم الأمواج.. جلبة بعيدة .. ناءٍ أنا.. كظيم؛ في داخلي يونس.. أبحث عن حوته.. كل يدور الآن في غسق العتمة.. وإن أشرقت قليلاً.. يؤذيني هذا الضوء الباهر.. غشية يحزني خزازها.. سطح البحر يتمدد.... وأصل إلى نقطة التمازج مع الماورائيات.. لقد دفنت أحزاني.. آلامي، توقعاتي المشوشة المتوحشة.. خذلاني البائن .. بكائي رويدا رويدا..

لا شيء في هذه الحياة يدوم..؛

أبحث عن أصدقائي في مهنة الصحافة؛ واحدًا تلو الآخر.. أتوقعهم.. يكون حضورهم بهيًا.. ماضويًا لأمسك بأكفهم لأطمئن على عافية روحي وشهيق وزفير بدني.. لم تبقَ لنا إلا الذكريات، وصوت المغني "رحت في حالك نسيتني"..

جربت هذا البكاء الجارح.. الأنين المفجوع.. العويل الهادر..

رميت حزنى ومضيت.. طيفًا يستعرض ما جرى في الحاضر، وما سيجرى في المستقبل..

غبت.. سريت.. ومن سرى رأى...

وماذا تفيد الكتابات العجولة

وطن هارب.. وتوزعت في الأماكن.. أرجو لملمة خاطر مكسور، أو بُهرة ضوء أرى عبرها سنين تهت فيها، تغبّرت أقدامي.. لم ألحظ شيئًا ذا معنى..؛ لأني رهنت أحلى سنين عمرى إلى لهث فضفاض، لم أتبين حدود مده وجزره...

دفنتني الصحافة في دغلها الكثيف.. ويبقى الخروج منها إلى لغة لينة مضيئة وبارقة مستحيل من المستحيلات..

أتساءل؛ وأنا في هذا الطريق الوعر عن الذي قادني إلى هذه "الفجّة" "المكان".

إن حواشات "مزارع" القطن التي غادرتها..؛ كان محصولها أبيضَ، لينًا، ناعمًا، بسيطًا؛ مثل آمال حبيبتي.. مصرعي الأوّل كان على يديها.... صحت لحظتها.. وانا دائم الفجيعة.. باكٍ عند مصرعي لأي سبب.. نازف:
  • "تدفق أيها الدم الحار... تمدد أيّها اللّهب في سماء الحصاحيصا.. بلدتي ومرتع صباي..


***

آدَمُو الحَنِين ..



كانت هذه الصور تتزاحم في خيالي... وأنا أغذُّ السير مسافرًا إلى "إقليم المجازر الكبرى.. الإبادة الجماعية.. إلى دارفور.. خارجًا من سوق ليبيا.. إلى أراضٍ مفتوحة، وسهول واسعة.. رمال كثيفة، وجبال تظهر هنا وهناك.. مزارع.. ومئات من قطعان الماشية.. قبائل.. تقاليد.. تجانس اللاتجانس.. اندغام وانفكاك..

امتطيت هذه الشاحنة في زمن سابق... رفع المُساعد "صبي السائق" عقيرته:
  • .. الفاشر.. الفاشر الكبير... يلا.. نفر والسفر..
الشاحنة عظيمة الجثة.. تُسمى بماركتها " zy".. "أبو ضراع"، سائقها الماهر يمخر بها عباب الوحل.. بحار الرمل.. تحت المطر الغزير.. إلى جانبي جلس عسكري ذو لحية كثّة.. يستاك بلا سبب.. برفقته امراة مغطّاة بعباءة سوداء.. العسكري قال لنا:
  • "أنا الشاويش جبارة"..
امتطى عدد من الركاب ظهر الشاحنة ..

وتمتد سهول غرب السودان.. إطارات الشاحنات "اللَّوَاري" حفرت مجرًى عميقًا..

حذّرك "آدَمُو"؛ الفراش بمبنى الصحيفة الرئيسى بالخرطوم، من مخاطر الرحلة إلى دارفور:
  • "وأحسن ليك تاكل عيشك في الخرطوم، مالك ومال السخانة والجبخانة" !!
مشيرًا إلى وجود مليشيات سلّحتها الحكومة لتصفية أي معارضين مسلّحين أو خوارج ..

"آدَمُو" فرّ من مناطق الحرب والتهميش، وأتى إلى الخرطوم.. تورّط - كما قال لك - في حبّ محرّرة كان يُسمّيها: "الأبيض ضميرك"، دائما رهن إشارتها.. طلباتها دائمًا حاضرة ..

ذات يوم باح لها:
  • أنا بحبّك يا "فاتن"..
اتسعت عيناها من الدهشة والاستغراب... هي الحالة التي وجدتها عليها لحظتها.

لم تحفظ سرّه.. رفعت عقيرتها مستنكرة:
  • آدم جنَّ .. يمين بالله آدم جنَّ ...
صمتَ منذ تلك اللحظة.. سرح في شوارع الخرطوم وهو يهذي:
  • "فاتن إنت يا الأبيض ضميرك"!
آخر الليل يضع رأسه على حجر قرب المدخل وينام.. ذات يوم لم يصحُ؛ لقد مات "آدَمُو"... "فاتن" كانت أوّل من اكتشف وفاته..

بعد اسبوع ماتت هي..

قال الأطباء: "سكتة قلبية"..

رحل "آدَمُو" واخذها معه..

لماذا تسلل "آدم" إليَّ في هذا الوقت بالتحديد؟

هل لأنني في هذه المهمة بحثًا عن الحقائق في دارفور؟؟

هل يقلقني تحذيره من "المليشيات وعنفها"، وربما أُقتل ..؟؟

قناعتي أنني صحفي يسعى لوطن في الأحلام... قاص فشل في سرد وجدان كلي لأمة لم يرها بعد..

أصحابي حصلوا على اللوتري.. والآن "أمريكان"، وبعضهم جرى توطينه في "أستراليا.. نيوزيلندا.. بريطانيا ألمانيا وفرنسا..

هذه إحدى خيباتي.. وهو ما لامتني عليه يوما حبيبتي آمال، قبل أن تدهسني عاطفيًا..

منذ البداية كلّ شيء كان واضحًا، محدّدَ الجوانب عندي.. الأشياء عندي في المسافة بين "الوضوح والخفاء"!

رفضت بادىء ذى بدء نظرية أن الحرب التي أودت بحياة الآلاف في دارفور بسبب "جمل قتلته إحدى القبائل"، فتصدّت لها الأخرى..؛ واندلعت الحرب..

هذا ما نقلته الصحيفة التي أعمل بها.... كان المانشيت بالبنط الكبير في الصفحة الأولى:

"مقتل جمل يؤدّي إلى اندلاع حرب قبلية في دارفور"

الذاكرة تسترجع هذه اللقطات، و"اللوري" يشقّ بحر الظلمة.. "أبوضراع السائق" الذي شبع تمامًا "من خمر رخيص"، يدوس "أبنص البنزين" حتى النهاية، ويدندن بأغنية شعبية تتحدث عن المطر والنساء الممتلئات شحمًا ولحمًا، وأنا ساهٍ..

ينتبه السائق لوجود الشاويش جبارة: ..
  • أنت من وين؟
  • يجيبه بلؤم: سوق سواقتك نحن البنسال مش أنت؟؟
  • يسالنى أبوضرا ع: إنت من وين؟
  • أجيبه: أنا من الجزيرة.. هنا زراعة القطن وحلجه.. محل "الفباريك" في مارنجان والحصاحيصا.
  • يضحك : (ههههههه).. نحن في سنة 2015 ما في قطن.. بلعو الجماعة.. فككو..
شعرت بالحزن.. اليتم... والتشرد... لأنني أعرف تمامًا الذين باعوا مشروع الجزيرة.. أرى صورهم في صحيفتي، وفي التلفزة... ولا أستطيع أن أفعل شيئًا ...

السائق "أبو ضراع" يدندن بأغنية تمجّد أمدرمان:
  • أنا أمدرمان.. أنا السودان.. أنا الدر ..
يصمت؛ ثم يلكزنى قائلا:
  • أنا بسكر عشان أنبسط وأقدر أسوق "البهيمة دي" يقصد اللوري.. بلقّط القروش عشان كيفي.. وبنفقوا على النسوان البعجبني..
ويفرك "أبو ضراع" يديه متحرّقًا للحظة التي تجمعه بالانفلات الكبير، سواء أكان في أمدرمان، أم في بحرى.. ويصيح بأعلى صوته:
  • "وااااااااي"..
كان هذا آخر صوت سمعته.. وأنا أغرق في تفاصيل سفرى الأوّل، وهو هروبي منها.. لقد تركتني إلى مدينة حالمة ناعسة..

أحس ببكائي.. ودعتني.. كل المشاعر والأحاسيس خاسرة .. حتى نجوم السماء كانت موغلة في البعد، نائية جدا..

وافترقنا..

دمعت عيناي.... لا.. بكيت.. بكيت .. بكيت ... وانسحبت إلى الداخل.. لقد غرقت لا أدري في بحر أنا، أو طوفان..

أحسست بيد خشنة تمسح دموعي بطرف شالٍ متسخ.. ملىء برائحة زيت الفرامل، وشحوم التشحيم.. أفقت على صوت "أبو ضراع" يقول لي:
  • هذا قدرك..
نبرته ضعيفة مثل لمبة "أمبير البنزين"..

قال ل: "أثبت.. أنت رجل"

يا للذكريات.. عندما أسرح بعيدًا ألملم لقطات حيّة لنساء دخلن في حياتي.. من بينهن "جاروفيلدا" القبرصية.. قابلتني في أحد المطارات.. لقاءً قصيرًا.. فتح بوابات القلب لمشاعر لن تطول.. متيقن تماما.. ابتعد صوتها مع هدير الطائرة .. حكيت لـ"أبو ضراع" قصّتها.. فداس "أبنص البنزين" ومضى يغنى بصوت أجش.. حكى لي مغامراته في مدينة "القضارف" المدوّرة، التي تثلج الصدر.. العسكري الصامت لم يعلّق على أي شيء.. أومات لـ"أبو ضراع".. قال لي:

- بِقيِّم في الموقف..

وضحكنا..

أخرج جبارة العسكري دفترا صغيرًا، كتب فيه شيئّا، ثم أدخله في جيبه.

***

القضارف



مدينة من ذرة وسمسم.. تنوع وتعدد.. تمازج وتداخل إثني وديني.. محاصيل تتدفق.. المباني عمارات بزجاج أزرق.. والذاكرة تحتفظ بـ"قَطَاطِي من القش".. احترقت ذات مرة "قطّيتنا " في "الكمبو"؛ الحيِّ العمالي بمدينة "مارنجان".. فررت من اللّهب إلى نقطة الشرطة.. إلى حنيفة الماء في الشارع العام.. قرب حديقة مسوّرة بالأسلاك الشائكة.. نجوت.. أحسست بغبن شديد لأن "اللستك" الذي كنت أدوّره في الطرقات جاريًا قد احترق..

القضارف..

لا حدود بائنة لها.. منثورة على خط الأفق.. هنا يتجمّع الباحثون عن الثروة والسلطة.. والقاسم المشترك الأعظم "السماسرة".. تجّار محاصيل من كلّ مكان..

خرج ابن خالتي "الطيب" ذات يوم من أمدرمان مُغاضبًا... وسمعنا أنه تزوّج في "الحواتة".. بعد أن سكن فترة من الزمن في "القضارف".. لم يتتبع أثره أحد.. ومرة أخرى سمعنا أنه أنجب.. وفتح دكانًا صغيرًا في "الحواتة".. كان يسافر كل شهر إلى إثيوبيا.. يجلب من هناك "صابون لايف بوي"، وأحذية بلاستيكية.. نوعًا جيدًا من الكنزات الشتوية.. وزكائب من البن.. وأنواع مختلفة من البخور.. الطيب.. رأيته مرة واحدة.. أتذكّره بشلوخ "وشم" على وجهه.. لكن مرآه يغيب رويدًا رويدًا عن عيني..

السائق قال لي إنه يهوى هذه المدينة المعطاءة.. وعندما ترد سيرتها يكوّر كمية كبيرة من "التنباك" "الصعوط" "النشوق"، ويقذف بها تحت شفته السفلى.. ويتاوّه:
  • حليلك يا قضارف"
الساسة المحليون في المدينة لا تتفق برامجهم مع طرح حزب "آمال".. أغلبهم غشاشون وكذابون.. قالت لى ذات مرة:
  • إن العدالة والمساواة وتوزيع الثروة والسلطة أفضل "سيستم" لإدارة هذه البلاد..
طرحها يتسم بالإنسانية.. تتغافل عن النص الحزبي العقائدي الصارم.. تأخذ منه ما يتفق وميولها وجمالها الداخلي، وتترك الحبال المشدودة للآخرين.

***

إقليم الشر



أنا في هذه الشاحنة أمضي في طريق يقودني إلى دارفور.. هذا ما كتبته على "تويتر"..
  • "واو" "wow"
قالتها ماريا صديقتي الصحفية السويسرية.. حذرتني من القيام بالرحلة إلى "إقليم الشر"؛ لأن مصيري سيكون سيئًا جدًّا..:
  • "ستباد ويفصلوا رأسك عن جسدك.. المليشيات.. الجنجويد.. أبوطيرة.. سيسلخون جلدك.. جيفتك ستأكلها الكلاب والذئاب..
اقشعرّ بدني .. أحسست ببرودة الموت..:
  • يا أخي تعال إلى أوروبا .. أنت مدهش، يمكن أن تصنع مستقبلاً لنفسك وأسرتك .. يمكن إعادة توطينك ..
  • رد عليها "مُلتحٍ" : إنت صليبية لا تفهمين شيئًا.. مشكلة دارفور بين قبيلتين والخلاف حول جمل استغله الخونة والمارقون ليشعلوا هذه الفتنة.. غورى الله لا كسّبك"..


فعلا بدأ الخوف يتسرّب إلى دواخلي.. خاصة أن أحد أصدقائي أُتّهم بالانضمام إلى إحدى الجبهات المعارضة للنظام القائم.. حكموا عليه بالإعدام بعد أن زجّوا به في السجن عامّا كاملاً.. ثم اختفى.. لا خبر ولا أثر!!

بدات أغوص في أشجاني.. ما بين الخاص والعام.. خاطرى مبلبل.. بعيدًا بعيدًا أُدقّق النّظر.. اشتقت إلى الخرطوم..؛ التي حينما يخضرُّ العشب ينبت العشاق "وإذا وجدوا حديقة في ركن منعزل يحتمون فيها.. يتناثرون على شاطىء النيل" جياع..

هل للجائع أن يحب"؟

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store