Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
شريـف قـنديـل

الله.. أنا وقريتي وجريدتي في رسالة دكتوراة!

A A
وكما لو كنت انتصرت لنفسي ولقريتي «رملة الأنجب» ولجريدتي «المدينة» وأنا أدلف بهما إلى كلية الفنون الجميلة بجامعة حلوان المصرية عبر صفحات رسالة دكتوراة دارت حول العلاقة المتبادلة بين الكلمة واللوحة. والحق أنني شعرت بكثير من الرضا والثقة، خاصة وقد اخترت طريق الفيلسوف جان بول سارتر الذي قال إن الكاتب حين يكتب لا يتوجه إلى قارئ عالمي، وإنما إلى قارئ في بيئة خاصة وفي موقف محدد، وإن ضمير الكاتب قد يهبط الى أدنى درجاته، اذا أصبح الكاتب بعيداً عن بيئته وعن شرائح مجتمعه!

أتذكر جيداً أن الباحثة وهي فنانة تشكيلية معروفة، قد رسمت بعض مقالاتي التي تُنشر في جريدة «المدينة» كل أربعاء، وهو ما دفعني لأن أضع بعض لوحاتها ضمن كتابي الأخير «شواهد الجمال في دفتر الترحال»، وحين وقفت الفنانة أثناء مناقشة الكتاب في معرض القاهرة، قالت إنها ستعد رسالة دكتوراة عن العلاقة بين الكلمة والصورة مستعينة بكتابي!.

والحاصل أنني وربما لجنة مناقشة الكتاب، وغالبية الحضور، اعتبروا تصريحها من قبيل المجاملة المقبولة في مثل هكذا مناسبة، قبل أن أفاجأ السبت الماضي بخبر حصول الباحثة الفنانة إيمان الدمك على شهادة الدكتوراة، مستعرضة أبرز المقالات التي استعانت بها في إعداد رسالتها، ولافتة الى أن ما صنعته، هو إرث قديم.

وجاء في مقدمة الرسالة التي أشرف عليها الدكتور محمد رشدي المنير، الدكتورة أسماء الدسوقي أمين، وتولى مناقشتها الدكتورة زينب الدمرداش، والدكتورة فاطمة عبد الرحمن، تأكيد الباحثة على أنها استلهمت مجموعتها الفنية عن «رائحة الأرض» من مقالات الكاتب «شريف قنديل» المنشورة في جريدة «المدينة»، والذى تفرد فى سرد القصص والحكايات المرتبطة بأهل قريته من البسطاء بأسلوب بسيط.

وعلى نفس النهج الفكرى أتت أعمال الباحثة فاستوحت من تلك المقالات مجموعتها الفنية، لافتة الى أن هناك مئات من الأدباء والفنانين التشكيليين قد تبادلوا التأثير والتأثر، فاستلهم الأديب اللوحة الفنية فكتب وأبدع، و استوحى الرسام من العمل الأدبى فرسم وصور.. ولهذا التأثير المتبادل بين الأدب والرسم قصة طويلة تمتد لآلاف السنين.

وفى العمل الفني المستوحى من مقال «الحنين إلى القمح»، تستدعي الباحثة وصفي لرائحة الدقيق المنبعثة من أثواب الفلاحات القريبات من الأمهات والأخوات والبنات العائدات لتوِّهنّ من «ماكينة الطحين»، وقد تعفرت أو تعطرت أثوابهن السمراء بدقيق الخير والبركة.

ثم تنتقل لعمل فني آخر رسمته على ورق قماش استلهمته من مقالي: «صوت السواقي.. الليل والنيل وجمال ريف مصر» حيث كنت منبهراً بأصوات السواقي التي تبكي تارة، وتنعي، أخرى، تصدح تارة وتصرخ أخرى، وأنا أتوقف عند كل منها لأرصد مدى اندفاع الماء، وأنتهز الفرصة لتذوق حبات من التوت الذي كان يسقط أحياناً في القناة المتصلة بالقواديس مباشرة. وهنا تشرح الباحثة الفنانة، كيف أن الحركة هي أساس الحياة، وكيف تدفقت الخطوط على سطح لوحتها لتكشف عن رسائل بصرية نابعة من حواديت الأجداد.

وعن لوحتها الرائعة المستوحاة من مقال «رعاة الغنم في القلب حتى في جبال الألب» وكيف أعادني المشهد الجميل إلى شارعنا الطويل؛ الذي كان يخرج منه كل صباح قطيع أغنام «الهلايلة»، فيسدّه تمامًا بدءاً من «فراندة» البيت القبلية وحتى «البركة» تشرح الباحثة كيف كان الاعتماد على الاختزال بين الواقعية الطبيعية والتجريدية التعبيرية، والتعامل مع الخط والمساحة من خلال ضربات سريعة تقترب من أسلوب التعبيريين.

وعلى ورق قماش أخرى بمساحة 35×65سم، 2019م استلهمت الفنانة لوحتها المتوهجة مما كتبته عن «روائح الفرن البلدي وبلاطة الأحلام» وكيف يخرج دخان الفرن فتمتزج «العجنة» بالفرحة أو بالدمعة، وتتوقد نار العاطفة.. تأخذ ما في صدور الصبايا من همٍّ أو حزن الى العاصفة.

لقد استحضرت الباحثة رائحة الخبيز ودخان الفرن والدقيق المنبعث من الملابس، وقد بدت السيدة أمام الفرن.. وحولها العناصر في حالة التحاف كامل بالبيئة المحيطة بها قبل الانخراط مع التقنيات المتنوعة لغزل المشهد والذى تبدأه الباحثة غالباً بتدفقات وجدانية فياضة تترجمها المساحات الافتراشية اللونية المتداخلة والتي توحى بالأمان والدفء والخير الوفير.

ومن مقال «غربة القمر» ترسم الفنانة، بالأحبار والأقلام الملونة على ورق قماش، 35×65سم، 2019م صورتي القلمية عن الوطن، الذي أسكن فيه ويسكن داخلي.. آخذه معي أينما سافرت وارتحلت مثل أشيائي الخاصة، ومثل لهجتي ونبرة صوتي ولون بشرتي.. ومن ثم فإن المسافات الجغرافية مهما كانت، لا تبعدني عنه، وهي في الحقيقة لا تُقربني منه، لأنه في الأصل معي!.. وهنا تقول الفنانة التشكيلية إنها اختزلت المشهد الأدبي في لوحتها فبدا القمر وكأنه توحد مع البحر حيث يسافر الإنسان ترافقه أسراب الطيور.

ثم تمضي بنفس الأحبار والأقلام الملونة لترسم على ورق قماش، 35×65سم، 2019م صورة قلمية أخرى كتبتها بعنوان «بيجامة العيد.. غرس المزارعين.. وابداع الخياطين» وكيف كنا نصعد على الطاولة الناعمة.. نفرد الأكتاف، نفتح صدورنا ونحبس الأنفاس، نرفع الرأس ضماناً لدقة المقاس.. نتخيل على أجسادنا انهمار الألوان فيما ينهمك الحائك في ضبط الطول والأكمام! وتشرح لوحتها المستلهمة من المقال موضحة كيف اكتملت أمام الماكينة كل عناصر العمل الفني من بشر وأسماك، مع حمامة وطائر اسطوري يخرج من ألوان البيجامة ليعانق الأفق..

هكذا بدا النص وبدا الرسم .. تناغمات لونية قريبة من أنغام الموسيقى التي تنبعث من الروح والوجدان، ليصبح الإلهام نابعًا من ذات الفنان.. كاتباً كان أم رساماً!.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store