Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
حليمة مظفر

بعيداً عن التفكير.. شيء من الحبّ!!

A A
لم أخطط لكتابة هذه المقالة، ولم أبحث كعادتي عن فكرة تستغرقني تفكيراً فيما سأكتبه؛ لهذا فلتسمحوا لي هذه المرة أن أبتعد عن مسائل التاريخ وأخبار العالم ومستجدات فيروس كورونا وقضايا الساعة وما يثرثر فيه «السوشليون» عبر مواقع التواصل الاجتماعي؛ فكل ما في الأمر إني عشتُ لحظات قبل كتابة هذه المقال مع قصائد الشعر، وطُفت بين شعراء وشاعرات كقباني ومحمد الثبيتي ودرويش والمتنبي ونازك الملائكة وابن الرومي وغيرهم؛ فمن جميل ما قاله عمر بن أبي ربيعة في السيدة سُكينة بنت الحسين حفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم:

أسُكَينُ ما ماء الفرات وبرده مني على ظمأ وحب شراب

بأحبِّ منك وإن نأيتِ وقلَّ ما ترعى النساء أمانة الغياب

فيما يأخذك بشار بن برد إلى كيف يمكن أن يعشق الرجل امرأة لم يرَها كونه كفيفاً؛ إنما سمع صوتها، قائلاً:

يا قومُ أذُني لبعض الحيّ عاشقةٌ والأذن تعشقُ قبل العين أحياناً

في حين تلتقي بشعر بدر شاكر السياب وترى كيف استطاع بشعره أن ينبلج من الريف محولاً بوصلة الغزل بالعيون الجميلة التي بقيت أجيال من الشعراء يشبّهونها بعيون المها فيما هو شبهها بغابات النخيل؛ وكيف لا؟! وقد انبلج من أرض عراقية ريفية، وكان حبّ صباه راعية الأغنام «هويل» التي يجمع لها أغنام ذويه وليس براعٍ، كي يقتفي أثرها متعذراً بالغنم، فيقول:

دعي أغنامنا ترعى حيال المورد العذب

وهيا نعتلي الربوة يا فاتنة القلــب

إلا أن «لميعة عباس عمارة» كانت الأكثر اختلافاً فيمن أحبهن السياب؛ فهي زميلة الدراسة في كلية دار المعلمين ببغداد شاعرة ومثقفة وحسناء عراقية؛ وفيما يبدو كونها من الصابئة إحدى الطوائف الدينية في العراق أحال ذلك أن ينمو الحب بينهما ويتوج بالزواج؛ وربما كثيرون لا يعرفون أن أشهر قصائد السياب «أنشودة المطر» التي غناها فنان العرب محمد عبده، هي قصيدته في زميلة الدراسة الحسناء:

عيناك غابتا نخيل ساعة السحر أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر

وترقص الأضواء كالأقمار في نهر يرجّه المجذاف وهنا ساعة السحر

كأنما تنبض في غوريهما النجوم

وماذا عن الأخطل الصغير؟! شاعر الحب والهوى بشارة عبدالله الخوري، الذي يأخذك إلى حيث التماهي مع عواطفه الموجوعة بمواقفه السياسية؛ إذ يرسل إلى حبيبته رسائله شعراً؛ بعد أن وضع الأتراك العثمانيون اسمه ضمن قوائم المطلوبين ممن ينتظرهم الإعدام؛ فهو عدوهم المناهض بقلمه وفكره للاستبداد العثماني؛ فاضطر للهرب باعثاً شعره إليها:

بلِّغوها إذا أتيتم حماها أنني مُتّ في الغرام فداها

واذكروني لها بكل جميل فعساها تبكي عليّ عساها

واصحبوها لتربتي فعظامي تشتهي أن تدوسها قدماها

هكذا تركت القصائد وحكايات أصحابها تأخذني معها إلى حيث المُدن الرطبة في أجسادنا «المؤقتة» كما يصفها درويش؛ واستغرب فعلاً رغم أنها «مؤقتة» إلا أنه يتملكنا شعور دائم بالخلود في «الحياة» وما نحن فيها إلا مجرد سلسلة بشرية، قادمون وراحلون؛ وسيأتي آخرون يكتبوننا كما كتبنا من قبلنا؛

وبالطريقة ذاتها التي فعلناها، سيقرؤون عنّا وحكاياتنا، وكأننا شيء من التسلية المعرفية يرتشفونها مع الشاي والنعناع أو قهوة عربية بيضاء أو أمريكية سوداء!

وربما يعتريك مثلي وأنت تقرأ قصائد الشعر وحكاياتها شعورٌ بأننا لا نملك من أنفسنا سوى هذه الأسماء التي شكلت هويتنا في أصوات الآخرين حين ينادوننا، أيعقل أننا مجرد حالة نداء؟!، أم أنه في كل مرة نُنادى بأسمائنا نكون فيها أبطالاً لقصص تنشطر إلى نصفين؛ نبذرها في الذاكرة الرطبة كسنابل قمح خضراء، ونتابع المشي بعد كل حالة نداء بأقدامنا المثقلة بأجسادنا حتى تغدو الشوارع متعبة بنا والأرصفة تزكم خشومها من رائحة أحذيتنا القذرة، أما الأشياء التي نملكها فموجوعة بأسرارنا، وكأن كل شيء ينتظر لحظة تطعمنا فيها الحياة للأرض، فتتحرر الأشياء منّا، وتتحرر أسماؤنا من أجسادها، ونغدو مجرد ذكريات.. مجرد حكايات..

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store