Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
شريـف قـنديـل

اللهم رحماك.. رحل «البشري» تاركاً الساحة للمفكرين والمستشارين الجدد!

إضاءة

A A
مثلما ظلمنا مصطلح «المفكر» وامتهنه البعض كثيراً وهو يطلقه على مراهقين ثقافياً وفكرياً، ظلمنا مصطلح «المستشار» أكثر خاصة ونحن نقرنه بوصف «الجليل» حتى صار مسمى لكل من هبَّ ودب!. وحين يرحل المفكر المستشار طارق البشري، يصبح المرء متردداً في استخدام الوصف من كثرة ما تعرّض للامتهان!.

أما عن كونه المفكر بحق وبألف لام التعريف، فلأنه أضاء لنا الطريق وفك لنا إشكاليات كثيرة واجهت جيلنا والأجيال السابقة، وهو يتناول معاني الأصالة والمعاصرة، والتراث، والتجديد، فضلاً عن فك الاشتباك الذي أراده البعض بين الإسلام والعروبة، وبين الإسلام والعلمانية، وغير ذلك من إشكاليات لا تعد! وأما كونه المستشار، فلأنه برجاحة عقله، جمع حول حكمته كل التيارات والمؤسسات بما فيها مؤسسة الجيش العريق الذي اختاره رئيساً للجنة معنية لتعديل الدستور المصري.

أممياً، يكفي لطارق البشري أنه حسم مسألة التجديد مبكراً، حين قال إنه مادامت لدينا القدرة على التمييز بين ما هو ثابت ويؤلف وضعاً إلهياً من الأحكام، وبين ما هو متغير واجتماعي وتاريخي من اجتهادات الفقهاء، فإنه ستكون لدينا القدرة على حفظ أصول الشريعة، وفي الوقت نفسه، نعمل عقولنا في المجال الفسيح، المتاح للاجتهاد، بما يحفظ الشريعة، ويرعى مصالح العباد، ويشيع العدل بينهم..

ما أروعك أيها الحَبر العظيم، حين قلت كذلك: «هناك تصور خاطىء لفكرة التجديد، وهو أنها تعنى بذل الجهود لإسباغ بُردة الإسلام على ما نشاهد ونمارس من أوضاع المعيشة فى حياتنا الراهنة.. وهذا موقف خاطىء لأنه يحيل الفكر الإسلامى إلى مجرد تبرير وتسويغ للواقع المعيش، ويجعل الإسلام محكوماً بهذا الواقع وليس حاكماً له»

ومصرياً، سيذكر التاريخ له، أطروحته عن العلاقة بين المسلمين والأقباط في إطار الجماعة الوطنية، عندما قال في أعقاب حرب 1967: ليس خطر الهزيمة في أنها تشكل تراجعاً عن موقع ما، ولكن خطرها الأسوأ أنها قد تخلخل الثقة في المسلمات، وتزعزع الثوابت في العقول والقلوب.. الهزيمة في ذاتها لا تشكل الخطر الأكبر، رغم كل ما تفضي إليه من خسائر وتضحيات، فامتلاك الذات هو حصن الأمان، وهو العدة عند المواجهة.. ولم يفُت البشري أن يحذر كذلك من إثارة الانتماءات المعارضة أو الثانوية، وتذويب الشعور بالتميز.

حداثياً، وفي رؤيته لماهية المعاصرة، يقول البشري: إن أهم ما يواجه العالم العربي والإسلامي يرد من المواجهة التاريخية بين أصول الحضارة العربية الإسلامية التي سادت حتى بدايات القرن التاسع عشر دون منازع، وبين الحضارة الغربية التي وفدت مع تغلغل النفوذ الغربي السياسي والاقتصادي والعسكري منذ بداية القرن العشرين. فالتاريخ العربي الإسلامي خلال القرنين الأخيرين يرتبط بهذه المواجهة في كل جوانبه.

إن السؤال الكبير الذي يُطرح الآن، كما قال الراحل الكبير، يتعلق بما نأخذ وما نترك، من الموروث والوافد. ويوضح قائلاً: «لقد طرح هذا السؤال طيلة الأعوام المائة الأخيرة، لكن «التخيير» الذي يعرضه هذا السؤال قد اختلفت موازينه الآن!

كنا في الماضي نقف على أرض الموروث، ونتحاور فيما يصلح لها من حضارة الغرب وأدواته، ثم صرنا -أو صارت كثرتنا- نقف على أرض الوافد ونحن نتساءل الآن عما نستدعي من «التراث»، وسؤال: «ماذا نأخذ من التراث» يستوجب التساؤل عن: من نحن وما التراث؟ وتلك قضية أخرى!.

رحل طارق البشري، في وقت تحتاج فيه مصر والأمة العربية والإسلامية، لكل عقل صافٍ وفكر سليم.. وحين يرحل مثل هؤلاء، يتكاثر المفكرون الجدد، الذين لا علاقة لهم بالفكر، والمؤرخون الجدد الذين ينهشون في التراث، والمستشارون الجدد الذين يشعلون النار ويوسعون الفرقة، ويمشون بين الناس بالإفك وبالكذب.. اللهم رحماك!.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store