Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
شريـف قـنديـل

الغربة والغرابة والاغتراب والوحشة.. وتصحر المشاعر!

A A
ثمة مسافة بين الغربة والوحشة، وبين الغرابة والتغريب والاغتراب! هذا ما أيقنته الآن بعد فراق العديد من الأحبة، حيث شعرت للحظة أني وحدي، أطل على ما يجري حولي، فأحصي أيام عمري، وكثيراً ما أعاتب أو أعاقب نفسي! أدلف أو أهرب الى شاشة أو ساحة «فيسبوك» فأطالع وجهاً أو زهراً يطلع، وآخر يذوي.. طيراً يعلو، وآخر يمضي.. لكني .. أشعر كلما حملقت أكثر بخوف وقلق على الجيل الطالع رغم انهمار الورود، من تصحر المشاعر!.

والواقع أنني بت أستشعر، كلما أوغلت في كتابات بعض البشر كباراً وصغاراً، سعي الجميع للبحث عن الوجود الزائف!، يحدث ذلك رغم أن الشمس كما يقول هيدجر، تشرق كل يوم، حاملة النور والدفء، إلا أن الإنسان المعاصر بدأ يهرب من الواقع المر ويدخل في ليل العالم!، ومع أن الانسان يبني كل يوم آلاف المساكن، إلا أن إنسان هذا الزمن، أصبح بلا مأوى حقيقي، لأنه نسي حقيقة السكن، حيث التواصل والتناغم والألفة والسكينة.. وبهذا سُلبت ذاته!.

وأعود الى الشعور بالغربة والاغتراب، من جهة، والغرابة والوحشة، من جهة أخرى فأقول إن هناك بالفعل علاقة بين كل مفهومين منهما، وعلى سبيل المثال فإن مفهوم الغربة في التراث العربي، يبدو أصلاً لمفهوم الاغتراب، وأساساً أولياً له.. ومن ذلك كما يقول المفكر الدكتور شاكر عبد الحميد، غربة عن المكان بالسفر، أو النفي، أو الهجرة، لكنها أيضاً قد تكون غربة في المكان، كما كانت حال أبي حيان التوحيدي في حديثه عن الغريب بين أهله، وفي أهله، وفي وطنه!.

والحق أننا صغار في الريف المصري، ولأننا لم نسافر أو ننفى أو نهاجر، باستثناء عمال «الترحيلة» الذين لم نلحق بهم، كنا نستشعرها اذا انتقلنا من الناحية التي نقطنها، الى الناحية الأخرى، ومن الحقل الذي عرفناه وعرفنا الى حقل آخر! لقد كانت أبعد مسافة من بيت أو غيط أحدنا لآخر «نمرة» لا تتجاوز ثلاثة كيلو مترات، فإذا توجهنا لسبب أو لآخر الى حقل كالهيش أو شروة العرب، أحسسنا بالسفر! فلما انتقلنا للدراسة في المدن المحيطة كمنوف وأشمون، وبي العرب، رحنا نكتب الأشعار عن الغربة، وعن القرية التي أوحشتنا وهي لا تبعد عن أي مدينة محيطة أكثر من عشرة كيلو مترات!.

أما الأكثر عجباً ودهشة فهو أن عيوننا كانت تدمع ونحن في بيوتنا وبين أهلنا وفي قلب مصر، حين نسمع محرم فؤاد يقول على مسرح نادي الزمالك، أو الترسانة، في قلب القاهرة: وحشاني مصر.. أم القناطر والنخيل والنيل وأحلى الذكريات..أم الأغاني الحلوة لليل والقمر والنسمة وخدود البنات! ثم نزداد بكاءً إذا ما صدح قائلاً: ياغربة دوبيني يا إما ترجعيني.. وتروحيني بلدي أنام في حضن بلدي.. وأقول لأهل بلدي: سلامات.. سلامات يا بلدي.. سلامات يا حضن بلدي!

لقد كان شعوراً جميلاً، وإحساساً دفيناً بحب المكان، أكثر من أي شئ آخر، على عكس ما يحدث الآن رغم توحش الانترنت! وهنا نصل الى مفهوم الاغتراب، الذي هو مرادف لدى كثير من الفلاسفة، لفكرة تفكك القيم والمعايير الاجتماعية، وفقدان السيطرة على السلوك الانساني، وضبطه!

إن اغتراب النفس لغوياً، هو شعورها بالضياع والاستلاب، والعجيب والمثير أن الاغتراب في الإنجليزية والفرنسية يوازيه ثلاثة مفاهيم في الألمانية، وكلها تقترب منا! الأول «بيع الملكية»، والثاني «التخارج» والثالث «غربة المهنة» أي أصبحت غريبة عن أهلها!.

على أن أخطر ما نستغرق فيه الآن، هو الغرابة، والتي هي كما يقول الدكتور شاكر، ضد الألفة، وحالة بين الحياة والموت، والتباس بين الوعي وغياب الوعي، قلق غير مستقر بين الزمان والمكان، وإقامة هناك عند التخوم!

أما الوحشة فإن كل شيء لا يستأنس بالناس هو وحشي، واذا أقبل الليل استأنس كل وحشي، واستوحش كل إنسي!. على أن الفروق بين الوحشة والغرابة، ليست حاسمة، لكن الوحشة ليست هي شعور الغرابة، وإنما قد تمهد لحدوث الغرابة، لأنها حالة من الشعور بالعزلة والخوف، قد تحدث معها الغرابة أو قد لا تحدث..

المدهش والمثير أن الغرابة، كما يقول المفكر الألماني فالتر بنيامين ولدت نتيجة ظهور المدن الكبيرة، حيث حشود البشر والمباني الشاهقة التي تسبب الشعور بالاضطراب! لقد أعادتني مقولة فالتر الى أجواء القرية حيث الإحساس باللوعة كلما غنت كوكب الشرق، شاكية أو باكية: كنت باشتاق لك و أنا وإنت هنا .. بيني وبينك خطوتين.. شوف بقينا إزاي انا فين.. ياحبيبى وانت فين.. والعمل إيه العمل.. ما تقول لي أعمل إيه؟!

الجميل هنا، أن فلاحاً أو عاملاً أو طالباً، كان يرددها ليلاً وهو يناجي حبيبته باكياً، تلك التي لا تبعد دارها عن داره بضعة أمتار، أو قريته عن قريتها بضعة كيلو مترات!.

أعود فأقول، أخشى على الجيل الطالع، من انعدام خيال التفاؤل والفرحة وأحلام اليقظة، وإمكانية تحقق الأماني الجميلة في الخيال المضيء!.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store