Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

وهم التفوق

وهم التفوق

A A
عندما هبطت الثورة الإلكترونية على العالم العربي من السماء، ومنحت الإنسان العربي فرصة التعبير عن نفسه، وعن آرائه، وعن موهبته، عبر المنتديات والمدونات، وغيرهما من الوسائل الإلكترونية الأخرى، وعندما أصبح ما يُعرف "بالعالم الافتراضي" ينافس وسائل الإعلام التقليدية، اضطر بعض المشاهير والنجوم من الكُتّاب، والكثير من أدعياء الشهرة والنجومية! للهبوط من أبراجهم العاجية إلى "قنوات العالم الافتراضي" ومخالطة الجماهير، والعوام، والمبتدئين وأصحاب البضاعة المُزجاة.

وكانوا ـ أي أولئك المشاهير وأدعيائها ـ في بادئ الأمر يكتفون بنثر نصوصهم على الجماهير التي كانت تلتقط تلك النصوص بالتمجيد والثناء، والتطبيل! حيث كانت "لعبتهم المفضلة" ولم يكن لهم أي دور تفاعلي مع تلك الجماهير ولا حتى بهمسة شكر.

ولكن الجماهير التي كانت -وما تزال- تعشق الأضواء بالتبعية! تنبهت لذلك، وبدأت مسألة التفاعل تخبو شيئاً فشيئاً، حتى تلاشت في آخر المطاف، الأمر الذي أجبر عشاق الأضواء للنزول للساحة، والتفاعل مع الجماهير سواءً بالسلب أو الإيجاب، حتى لا يفقدوا بريقهم المزعوم.

وبعد اكتساح وسائل الإعلام الرقمية الجديدة الساحة! بدأت الظاهرة تعود من جديد، ولكن بشكل أكثر فجاجة، وإن كنت أرجح أنها لا توجد إلاّ في عالمنا العربي غير السعيد! وأعني بتلك الظاهرة عجز الكثير من "الكُتّاب الافتراضيين" في ـ الفيس بوك ـ أو في تويتر، أو في بقية وسائل التواصل الاجتماعي عن التفاعل الإيجابي الذي يثري العقول، ويغذي الأفهام من خلال الحوارات الجادة والرصينة، والتي تقوم على أسس منهجية وأخلاقية بعيداً عن الإقصاء، والعنتريات الثقافية المتمثلة في مبدأ لا أريكم إلا ما أرى!

ولكنك تفاجأ بأن الكثير من زعماء، وأدعياء الشهرة والأضواء، مازالوا يعيشون في أودية من الأوهام؛ وذلك لاعتقادهم بأنهم وصلوا إلى النجومية لمجرد أنهم ألفوا بعض الكتب التي ربما لا قيمة لها، أو لأنهم كتبوا بعض الروايات التي ربما كانت أقرب للسطحية والتفاهة منها إلى الأدب الجاد! أو لأنهم قاموا بإجراء بعض اللقاءات التلفزيونية أو الإذاعية المبرمجة والباردة! ولذلك نجدهم يتعاملون مع القراء والمتابعين بفوقية واستعلاء بغيضين من خلال طرح "منشوراتهم أو تغريداتهم" والاستمتاع فقط بموجات التصفيق، والمديح الممجوج "واللايكات الفارغة" من قبل معشر المتابعين والقراء، في الوقت الذي يظّنون فيه على أصحاب المداخلات والتعليقات الجادة بالحديث المثمر والنقاش الراقي، وفتح النوافذ للحوار الجيد.

الأمر الذي يجعلنا نتساءل: لماذا هذا التعامل غير اللائق، وغير الحضاري من هذه الفئة التي تدّعي النخبوية مع شرائح القراء المختلفة؟

والجواب حقيقة يحمل أوجه متعددة، ويتألف من أسباب كثيرة منها ماهو فكري، ومنها ما هو ثقافي، ومنها ما هو اجتماعي، ومنها ماهو نفسي، ولعل أهمها أو ما يجب أن يُشار إليه هو ذلك الخلل الرئيس المتمثل في البنية الذهنية والنفسية لدي أولئك المشاهير، والذي أستطيع تسميته وتشخيصه "بوهم التفوق" الذي كان -وما يزال- يسيطر على عقليات الكثير منهم للأسف.

"وهم التفوق" عبارة عن وهم يعشعش - لا أجد حقيقة تعبير آخر - في أذهان بعض الكُتّاب إذ يتصورون بأنهم أفضل من الآخرين من خلال اعتقاد زائف، يؤمن بأن الموهبة بصرف النظر على أنها حقيقية أو مزيفة! هي التي منحتهم ذلك التفوق، وأن الموهبة وحدها هي من أضفت عليهم تلك الأفضلية! وأن النجومية التي وصلوا إليها كانت انعكاس طبيعي لتلك الموهبة، ولذلك كان التعامل مع شرائح الجمهور المختلفة وفق هذه الرؤية القاصرة والمشوهة!

هذا الوهم حقيقة لا يختلف عن بقية الأوهام التي تجعل الإنسان أحياناً ينسى نفسه، ويضرب بالحقائق عرض الحائط ويصبح أسيراً للكثير من العادات والتقاليد اللا أخلاقية.

ذلك الوهم الذي يجعلك تعتقد أنك أفضل من الآخرين لأسباب لا علاقة لك بها، وإنما صنعتها أنساق وظروف معينة تعبّر بالفعل عن أزمة وعي حقيقية، وكارثة عقلية إن جاز لي التعبير.

حسناً ماذا بقي؟

بقي أن نذكّر هذه الفئة من معشر "الكُتّاب الافتراضيين" بأن الحياة عبارة عن مبادئ وقيم، وأن الكون كله مبني على التفاعل الإيجابي بين مكوناته المختلفة، وأن العطاء في كل حالاته وأحواله فضيلة لا تعادلها فضيلة، وأنه يتوجب عليهم النزول من أبراجهم المُصطنعة، حتى لا يتعرضوا لنفس مصير أصحابهم القدامى حيث التهميش، والنسيان، والتلاشي.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store