Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
شريـف قـنديـل

فرح لم يكتمل بشجرة مثمرة.. الجمال لا يباع بالكيلو!

A A
لم تكن استدارة القمر وحدها هي التي أغرتني بالوقوف أمام نافذة غرفتي مشدوهاً، فقد سمعت هسيس شجرة جديدة.. جميلة ومثمرة، وكأنها تناديني! كان ضوء الغرفة ينعكس على أوراق الشجرة الخضراء الباسقة، فيما تبرق ثمارها بفعل ضوء القمر، وكأنها فصوص من الذهب المصقول! والحق أنني لم أمهل نفسي حتى الصباح، ذلك أنني تربيت على الاحتفاء اللحظي بميلاد شجرة جديدة، أو حيوان جديد!

أمسكت بأوراق الشجرة السميكة وأنا أقف تحتها، فيما تتدلى ثمارها، وأنا مملوء بالبهجة والحنين لأشجار بيتنا القديم! ناديت بصوت عالٍ على مزارعنا القاهري لأحييه أولاً، ولأشكره على تلك الهدية الثمينة التي استقبلتني! كنت قد وصلت إلى القاهرة مساءً، وعندما تجهزت للنوم، كان المشهد عبر النافذة المطلة على الحديقة قد عمل عمله في رأسي ومنعي من النوم، وكان صوت المزارع وهو يجادل مع مجموعة الحراس مسموعاً بوضوح! والحق أن الرجل لم يبدِ فرحاً غامراً بثَنائي عليه، لسبب لم أتبينه! كان متعجلاً للعودة إلى مقر عمله في النادي الكبير المقابل لبيتي، ومن ثم لم يمنحني فرصة السؤال عن نوع الشجرة أو اسمها!

في الصباح الباكر، وفور أن استيقظت وجدتني في حيرة شديدة، لم تفلح معها اجتهادات وردود «الجنايني» المتخصص كما يقول في زراعة وتنسيق الورود! لقد كان من الواضح أنها ليست شجرة برتقال أو يوسفي أو ليمون «بنزهير» أو ليمون «اضاليا» أو «نفاش» أو «جريب فروت».. ترى ماذا تكون؟!

ذهبت مرة أخرى إلى الشجرة الجميلة التي لم تكن أبداً ضنينة، فقد أثمرت على قدر ما استطاعت، ومن ثم فلا مجال للغضب، إذ يكفي أنها منحتني فور وصولي من الإحساس بالجمال ما يكفي!

طوال نهار اليوم التالي لوصولي أخذتني الشجرة من كل، بل من أي اهتمام، فإذا جاء من الأهل والأصدقاء من يهنئ بسلامة وصولي، أخذته إلى الحديقة وتحديداً إلى الشجرة، عله يعرف أصلها وفصلها! وإذا مضى المهنئون رحت أبحث عن أرقام أصدقائي وأقاربي من المهندسين والمهندسات الزراعيين والزراعيات لأسألهم عن توقعاتهم لنوع الشجرة، مزوداً إياهم بصور واضحة لأوراقها وثمارها بل وساقها وفروعها، حيث تعددت الإجابات!

أخيراً جاء المهندس محمد سليم الذي يشترك معي بشكل أو بآخر في مهنتي وفي اهتماماتي الزراعية، فقد مارس العمل الصحفي لفترة رغم كونه مهندساً زراعياً! أتذكر أن عمي كان يقرعه إذا لم تطرح شجرة، أو إذا «فرصت» أخرى، وكأن دخوله كلية الزراعة يحول دون أي خسائر زراعية كانت أم مناخية!.

بدأنا في اختيار وقطف الثمار المستوية، وجلسنا على طاولة أسفل الشجرة، وكل منا يمسك بسكين، محاولاً التعرف على طعم الثمرة دون جدوى!، غادر ابن العم للقرية حاملاً معه بعض الثمار، ليعرضها على الزملاء الزراعيين هناك، إضافة إلى بعض المزارعين، وتركني في نفس الحيرة!

بعد أيام جاء صوت المهندس الزراعي «عبدالعليم» معتذراً عن عدم تمكنه من المجيء إلى القاهرة، ومؤكداً لي أنه عاين الثمرة وتذوقها فور أن سلمه إياها المهندس سليم، طالباً مني أن أقدم له باستفاضة وصفاً دقيقاً للأوراق والثمار والساق! والحق أنه أعادني لأستاذي الرائع عبدالفتاح الجمل رائد الصحافة الأدبية في مصر، وهو يصف للأديب الأروع بهاء طاهر حين كانا يمضيان على الطريق الصحراوي هناك في مرسى مطروح، شجرة التين!

أعواد كالحة، وجلد مقلحف لا ينز ولا يندع، نحن في منطقة أطلال نبكي آثار الحبيب والحياة التي نزحت! في تباشير الربيع، تتثاءب وتطقطق عضلاتها وعقلها، وتفرك عيونها، وتتفتح فيها نوافذ وكوى تطل منها، وعلى موسيقى البحر تتخلق براعم رقيقة حانية، والورق السميك كآذان الفيل، مكسو بالشعيرات كالقطيفة الخضراء، وشعيرات القطيفة لم تأتِ اعتباطاً بلا وظيفة، هي غطاء كثيف، وحاجز جمركي، يسمح بمرور أشعة الشمس بعد أن يكسر أنيابها ويجردها من سلاحها، ليكون النفع بلا أدنى ضرر.. بلا نتح!

رحت أشرح لعبدالعليم جمال أوراقها وخضرتها الفاقعة، واستدارة ثمارها بألوانها البرتقالية الرائعة، وامتشاق ساقها وفروعها بكل شموخ وكبرياء! قال عبدالعليم مواسياً.. يبدو أنها جينات مرتبكة أو عملية تلقيح هوائية لا إرادية جعلت ثمارها على هذا النحو!

قلت وأنا أنعي صديقينا الراحلين المهندسين عبدالناصر سلام، وعلي هلال، لو أنهما بيننا الآن لكانا عرفا ماهيتها وأصلها وفصلها، ولم يشأ أن يجادلني مكتفياً بالترحم معي عليهما!

غادرت مصر، ومضى نحو عام وجاءت أيام «خرجة العين» وهي تلك التي يفضل فيها المزارعون فرس الشجيرات والشتلات الجديدة، وحين كنت أوصي «الجنايني» بشراء المزيد من شجر الزيتون والرمان، سألته عن حال ثمار الشجرة الجديدة هذا الموسم وجاء الرد صاعقاً! قطعناها!

صرخت في الهاتف، ورحت أتحدث عن قلبه الذي لم يهتز وهو يأخذ مثل هذا القرار، وعن يده وكيف تجرأت على اقتلاع كل هذا الجمال، فيما كان يتحدث هو عن الشجرتين البديلتين وكيف طرحتا وأثمرتا كميات من الخوخ البلدي! والحق أن صوتي الصارخ ولوعتي الواضحة وأنا أحدثه لم تؤثر في ردوده على الإطلاق، بل إنه كان يضحك، متسائلاً عما إذا كنت سألحق تذوق الخوخ، ومستفسراً عن سر التياعي على الشجرة المقطوعة: «هوه انت كنت عايز منها إيه! قلت يكفي شكلها وروحها.. يكفيني ما منحتني إياه من إحساس بالبهجة! نعم لم أتذوق أو أتعرف على طعمها، لكنني تذوقت فيها ومعها الجمال! يارجب! الإحساس لا يباع بالكيلو! وطعم الحياة لا يختبر باللسان!!.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store