Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
شريــف قنديل

أجران البهجة وروعة الدهشة.. رعوية عشق لشاعر وفنان!

A A
وكأنه يمارس معي مهمة «التفتيش»، باغتني الفنان الدكتور سامي البلشي بلوحة جديدة عن القمح، فأعادني إلى ذلك «الجرن» الأسطوري الذي فاق في روعته كل ما رسمه الفنانون السابقون واللاحقون من العرب والأجانب! لقد مثل لي الجرن الذي يتشكل أمام بيتنا كل موسم، ساحة للتأمل في جمال الطبيعة، وبانوراما كاملة لمعنى الحصاد.. كدحًا وعرقًا وبهجة! يتم رص حزم القمح المربوطة باتقان على شكل دائرة، قبل أن تتحرك عليها البقرة، وهي تسحب «النورج»، حيث يصعد للجلوس عليه الكبار، وتثقيل وزنه، بحيث تبدأ عملية «الدراس»! وفي اليوم التالي وما بقي من أيام يمكن للصغار الصعود، وحث البقرة على التزام «المدار» وهي مغماة غالبًا حتى لا تشعر بالدوار! وكان لدينا «نورج» أسفله تروس حديدية حادة، ودكته حمراء داكنة، نزينها أحيانًا بأعواد الذرة البكرية، فتبدو كهودج العروس، فيما تمضي مرحلة «الدراس»! تطل شرفة بيتنا «البراندة» المكيفة صيفًا وشتاء، على «الجنينة»، وفي منتصفها ومع تواصل الدراس، تتشكل «الرمية» التي تزداد نعومة كل يوم، حتى تصبح فراشًا جميلا للسهر والسمر، والتحلق حول «الركية» لشوي ما كان طريًا من سنبلات القمح «فريكة»، وما قد يسعفنا به الحظ من كيزان الذرة البدرية.. وحولنا تعلو أشجار الكافور والجازورين والجوافة، وما بقي من زيتون ورمان، فيما يبدو خلف سور الجنينة من الجهة البحرية، جمال الغيطان! يجلس أبي على البراندة، ممسكًا بالأهرام، اذا كان اليوم جمعة، وبالجمهورية إذا كان خميسًا، وبأخبار اليوم إن كان سبتًا، ومن ثم تنتظم الحركة في الجرن، ولا تعلو الأصوات! فاذا ما دلف الى الصالة، تخرج أصواتنا ومناداتنا لبعضنا واستقبالنا لأصدقائنا، قبل أن يرتفع الصياح، والشجار أحيانًا على من يقود النورج مع دخول أبي الى غرفته! وكنت قد قرأت مبكرًا في مجلة «الهلال» قصيدة لشاعرة بولندية اسمها «أنابوجو فوفسكا» بعنوان حقل القمح والجرن، تصف فيها لوحة فان جوخ الشهيرة، وتقول: هندسة زهور الكاستانيا أنت الذي قستها.. آلاف السنابل أنت حسبتها.. سحابة الحياة ثبتها على ضربات القلب والفرشاة.. وأنت يافان جوخ دائمًا ما تضيق عقدة الألوان.. تستعبد الشعاع بلون النيران، وتخنق البريق بسحب البخار والدخان.. هكذا راحت تمتدح: قسمت لي يأس ألوانك، بكاءك، شوكك، أحجارك.. جعلت من نصيبي قوس قزح! وحين رحت أردد أبياتًا منها على أستاذي الأكبر الشاعر محمد عفيفي مطر، فرح كثيرًا، وراح يضحك بصوت عال، وهو يكتب لي إهداء ديوانه قائلا: الى أعز الأصدقاء شريف قنديل.. لقمة النبل والشرف التي اقتسمناها صغارًا وكبارًا، وتحية المحبة العميقة. وعندما سألته عن سر ضحكه، قال: اقرأ في «النمنمات» التي بين يديك «رعوية نورج حسن سليمان في لوحته» ورحت أقرأ وهو يصحح لي: يغسل الفجر يديه، نافضًا فضة خفية بعرض الريح.. يمشي في حقول القمح، تعلو الشمس في زفرة صيف باكر، والأرض تمتد حصيرة من ذهب.. عم بشنس: خذ إلى «الركوة» هذا السبل الأخضر، وأفرك قمحه المشوي في حجري.. فرقت بين عينيه الشموس الضاحكة، ثم أغفى وارتخت أعضاؤه في الظل، وانفض النهار! عرس المذراة والمسحاة واللوح الخشب، فغدًا سوف يجيء الآخرون.. عم برمودة في بقعة الخوص ودارسون من أهلي.. وفي أعقابهم يمشى الهوينى.. جمل يحمل في الرحل، وفوق القتب النورج، محلولا ومركومًا بلا شكل، وكومًا من الحبال، ووراء الركب يمشي حسن الرسام، مدكوك القوام.. يحضن الحامل والخيش ويطوي فرش الألوان، والمعجن تحت الابطين.. يمسح الأفق بعينيه، وقد شف الغمام.. والضحى ذهب حي وقش يفرش الأرض.. وفي بارقة الإلهام، كان الضوء سيالا على فرشاته، يسحبها فوق أديم الخيش كالطائر، فالنورج يرسو فوق فخذين من السنط، يضمان الحديد المرهف الدائرة.. الدكة يزهو لونها البني في شمس الحصاد.. حسن الرسام يلوي مقود الثور فيعلو صوته من معجن الألوان والفرشاة.. من بينهما ينتظم القمح على مدرسه، مثل الرغيف.. حسن الرسام يلقي فضة باهتة في ذهب القش، فيمشي الثور في سكته! قبل أسبوع، كنت والله على ما أقول شهيد أعيد قراءة قصيدة الشاعرة البولندية الجميلة، ورعوية مطر الأجمل، واستعيد مشاهد الجرن في بيتنا، والنقوش الرائعة على دكة النورج، عندما صاح سامي البلشي، وكأنه يراقبني من بعيد: خذه هذه! أرسل لوحته القمحية الرائعة، فازاج عني شعورى بالرتابة، وما علق بي مؤخرًا من كآبة فبدأت الكتابة! كان مزارع البلشي يقف شامخًا وسط قمحه، ممسكًا بمنجله، ومتأهبًا للحصاد، وكنت أستعيد النورج والرعوية، وأنا أفرك «سبل» الذكريات البعيدة حول «الركية»! كان مزارع سامي الرسام، يبدو وهو ممسك بمنجله كعازف الكمان.. تصطف حوله وخلفه أعواد القمح.. تراقصه فيما يشبه المهرجان.. يحاول بعضها أن يستطيل ليميل على صدره، وينحني الآخر، لجلال الخلاق العظيم! كان مزارع البلشي يهفو الى الحصاد، فيما يطل وجهه على السنبلات التي أثمرت حوله.. يتمدد في روحه وفي قامته.. يتلو ما تيسر من آيات البركة في سره.. كان سعيدًا وراضيًا بالمحصول.. وكنت أقول: عفوًا سامي! .. إنه النيل.. يمارس هوايته المحببة، وينشر الحنان والأمل.. في حنايا الحقول!
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store