Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. بكري معتوق عساس

شاشة حاسوب!

A A
كم هو جميلُ أن تعود بعد أكثر من خمسة وعشرين عامًا إلى مرابع الجامعة التي درستَ فيها وأمضيت فيها فترة من أزهى فترات حياتك.. تشعر حينها كأن الزمن يُطوى، وكأن ذكريات الماضي تنتفض حيةً أمامك، وكأن ذلك التاريخ الذي طواه الزمن عاد مرة أخرى بكل تفاصيله وحكاياته، بخيباتهِ ونجاحاته، بحلاواته ومراراته.

كان ذلك ما شعرتُ به وأنا أدخل إلى جامعة (ويلز) ببريطانيا بعد خمسة وعشرين عامًا من مغادرتي لها بعد حصولي على شهادة الدكتوراة.. في هذه الزيارة استقبلني مدير الجامعة مشكوراً، وجلستُ في مكتبه نتحدث حول هموم التعليم العالي ومشكلاتِهِ، ولاسيما حول (إشكالية التواصل) بين قيادات الجامعة وطلابها.

أدار رئيس الجامعة شاشة حاسوبه إليّ فوجدتُ صفحتَهُ على الفيس، قال لي: اقرأ، فقرأتُ ملاحظات الطلاب ومآخذهم ونقداتِهم عليه وعلى الجامعة.. ما لفت نظري أن هذه الملاحظات على جودتها وجديتها وحساسية بعضها إلا أنها كانت معروضة بلغة مهذبة، لغة تليق بطالب جامعي مثقف يتأهلُ لاقتعاد منزلتِهِ اللائقة في خدمة بلادِهِ.

قارنت بين هذا الواقع وواقع شبكات التواصل في عالمنا العربي، هذا الواقع الذي يعجّ بكثير من الإساءات والشتائم والبذاءات والافتراءات والعدوان على الأعراض.. لقد نجح بعض الناس -عفا الله عنهم- في تحويل هذه الشبكات الاجتماعية من وسائل اتصال إلى أسلحة اقتتال! ومن تلاقح فكريّ إلى تدافعٍ همجيّ! ومن رياضٍ منعّمة إلى ساحاتٍ ملغّمة!

لستُ أدعو هنا إلى السكوتِ عن الأخطاء، ولا إلى إلغاء القوة التأثيرية لهذه الشبكات، ولكنني أدعو فقط إلى ترشيد استخدامها، وحفظ حقوق الهيئات والأشخاص.

صحيحُ أن المسؤول مطالبُ وجوبًا بالاستماع إلى النقد والإصغاء إلى الملاحظات وفعل شيء حيالها، ولكن المواطن مطالبُ أيضاً بأدبِ الخطابِ وأخلاقيات التعامل، وبأن يتثبَت قبل أن يرسلَ كلمتَهُ تسيرُ بها الركبان.

واجب الإصغاء إلى المطالب والملاحظاتِ لا يعني وجوب تحمُل الشتائم والبذاءات، والنبيّ صلي الله عليه وسلم لم يكن لعاناً ولا شتاماً بأبي هو وأمي.. ومن المهمّ أن يُدركَ (المغرّد) أو (المفسبك) أنّ مسيرة الإصلاح هدفُها الحقيقي إحداثُ تغيير إيجابيّ في الواقع، وليس هدفُها مجرد التنفيس عن الاحتقان وإطلاق العنان للغضب المكبوت، وأظنّ أن كل عاقل يدرك أن (الشتائم) لم تصنع قطُّ واقعًا أفضل، وأن التواصل الإيجابي العقلاني الهادئ كثيراً ما يصنع الفرق.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store