Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

أنسنة البشر

أنسنة البشر

A A
مع كل تقدم وتطور تشهده المدن المتقدمة تتحوّل تدريجياً إلى مدن جامدة تخلو من الروح، يسود مبانيها الشاهقة وطرقها المزدحمة جمود إسمنتي قاسٍ ومخططات بائسة تخلو أحياناً من الإنسانية ومراعاة احتياجات كافة الشرائح المجتمعية، فظهر تزامناً مع الجانب المُظلم لتلك التطورات مصطلح «أنْسَنَة المدن» وهو أسلوب عصري حديث لرفع مستوى جودة الحياة وإضفاء نوعاً من المرونة إلى أجزاء المدن الصلبة؛ أي تخطيطها بأساليب تخدم كافة فئات المجتمع وهندستها بدقة لتحويلها من مدن صلبة إلى مدن أكثر روحاً وحياةً وإخضراراً، تحتضن كافة سكانها وتقدم لهم خدمات متكاملة وتلبي احتياجاتهم الأساسية لحياة راقية.

إن كانت أنْسَنَة المدن ضرورة مُلحة لحياة جميلة ومنظمة ذات جودة عالية فكذلك بعض البشر هم بحاجة إلى أنْسَنَة أرواحهم التي جمّدتها التقنيات الحديثة وأعماهم المكوث داخل قطار الحياة المارق سريعاً في طرقاته الحديدية عن الالتفات نحو جوانب الطريق المُزهِر وحَجَب عنهم رؤية ألوان الحياة البسيطة من خلف نافذة العمر السريع.

خَطَر في مخيلتي مسمى «أنْسَنَة البشر» وهو موجّه لفئة من الناس حوَّلتهم الحياة المادية إلى «روبوتات» قاسية تؤدي مهامها بدقة تخلو من الإنسانية التي خُلِقوا في الأرض ليعمِّروها بها، فالبعض في المجتمع اُصيِب بعدوى جمود المدن وصلابة المباني وقسوة الطُرُق، فلم يعد يهتم بالإنسانية داخله بقدر حرصه على الغوص في أعماق الحياة المادية الجامدة فأصبح كالمرآة لتلك المدن؛ ملامحه الجامدة تعكس قسوة بنيانه الداخلي، وصلابة مشاعره تحكي الجمود الجليدي الذي يمكث فيه، وبات كالآلة لا يشعر بما حوله من جمال، يقيس الحياة بالمادة والعلاقات بالتبادل فلا عطاء دون أخذ، ولا مشاعر دون شروط! يفتقد شعور الرحمة نحو الحياة وكائناتها ولا يكترث لحاجة الآخرين، فَقَد الاستمتاع بالحياة الحقيقية التي وهِبت له، ولن يُدرك حجم خسارته إلا حين يستيقظ فجأة على رحيل أجمل سنوات عمره مُغلّفة بقسوة المدن التي يُشبهها، وحينها ستتصدَّع أجزاؤه وتتهاوى قوته ولن يجد مَن يقف بجانبه لإعادة ترميمها!

أولئك البشر بحاجة إلى هندسة حياتهم وأنْسَنَة أرواحهم وإعادة تدوير نظرتهم نحو الحياة وتحسين جودة حياتهم بتخطيطها وتوجيه بوصلتها نحو الحياة الحقيقية المليئة بالتفاعل الإنساني المبني على العطاء، حياة مرنة كلها أنْسَنَة وانسانية وامتنان.

الإنسانية في الحياة والشعور بالرحمة نحو الضعفاء من الناس والكائنات هو رزق يُقذَف في القلوب، ومع ذلك يمكن أن يُكتسَب بالممارسة والنَمْذجة واستشعار المسؤولية الاجتماعية تجاه كل الأرض وكائناتها دون استثناء.

جرّب أن تعيش الحياة بإنسانية تامة وأنْسِن روحك نحو الحياة وستجِد أنك أصبحت إنساناً في زمن اُزدحِم بالبشر.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store