Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

طارق فراج لـ المدينة : الفائز الحقيقي في الجوائز.. الثقافة نفسها

طارق فراج لـ المدينة :  الفائز الحقيقي في الجوائز.. الثقافة نفسها

الحاصل على «جائزة الطيب صالح للإبداع»

A A
لا يخدعك هذا الهدوء الذى يختبئ خلفه، ولا هذا الصوت المتمهل كأنه الحكمة الصافية، فوراء الهدوء روح موارة بالثورة، وعين كاشفة، وراصدة لتفاعلات البشر مع الواحة في تلك الصحراء البعيدة.. هو كما يقول عن نفسه: يكتب الرواية تحت ظل القصيدة، ويرى أن الثقافة هي الفائز الأول في الجوائز الأدبية لأي أديب، كما يرى أن الإبداع هبة المكان وبدونه تصبح الفنون بلا قيمة! إنه الكاتب «طارق فراج» ابن واحة الداخلة في الصحراء الغربية بمصر، الذي يتنقل بين فنون الشعر والسرد بمهارة، مصّرا على أن يترك روحه حرة طليقة، تسرح في مراعى الأدب دون قيد أو شرط. ولطارق في مجال الشعر ديوانان: «البنات» و»مش شرط» وفي الرواية: «الشقوق» و»باب للخروج» و»الهبوط لأسفل ببطء».. كما حصل على عدد من الجوائز المصرية والعربية، كان آخرها جائزة الطيب صالح للإبداع عام 2021 عن روايته «لعبة السفر».

• لعبة السفر عن ماذا تتحدث، ولماذا هي بالتحديد خاصة وأنها كانت بالدرج منذ فترة؟

= ظلت رواية «لعبة السفر» حبيسة الدرج لمدة عامين أو أكثر، لكن ذلك الأمر كان تقصيرًا مني وكسلًا يعتريني بين الحين والآخر، إضافة إلى أنني كنت قد انصرفت إلى الترجمة في ذلك الوقت فشغلتني وسرقت معظم الوقت الذي كنت أخصصه للكتابة. انصرفت عنها فترة لكن شخصياتها القليلة كانت تدور في ذهني، تأكل وتشرب وتنام.

«لعبة السفر» هي خطوة أخرى في مشروعي الروائي الذي بدأته منذ أن اتجهت إلى كتابة الرواية، واستكمالًا لدرب الحياة الطبيعي في الواحات.

إحدى روايات الضيف



الرواية اختارتني

• رغم حضورك الشعري كأحد شعراء قصيدة نثر العامية البارزين، إلا أنك اتجهت للسرد، فأنجزت عددًا من الروايات، ما الداعي لهذه النقلة الفنية الكبيرة؟

- ربما لا توجد لديّ أسباب جاهزة ومباشرة تفسر اتجاهي لكتابة الرواية في الآونة الأخيرة إلا أنني أظن أنه لم يكن اختياري في الأساس، بل كان اختيار الكتابة ذاتها.. تلفتت حولها مرارًا، ثم أشارت إليّ.. هي التي اختارتني.

لم أعقد العزم على كتابة الرواية فجأة وإنما كان ثمة إحساس يدفعني لا إراديًا تجاه هذا اللون من الأدب.

مغرم أنا بالرواية منذ زمن مبكر.. ربما تمنيت يومًا ما أن أصبح روائياً وكنت أغبط كُتّاب الرواية على ما يخلقونه من عوالم، وما يفردونه من مساحات مغايرة وجذابة.. في الرواية، يصبح اكتمال اللوحة له طعم آخر.. حتى أنني تأكدت في مرحلة ما، أنني يتحتم علي أن أكتب الرواية.. لماذا؟ لأنني أعتقد أن الرواية هي اللون الأدبي الوحيد الذي يستطيع ببراعة أن يُظهر الواحة للنور قبل أن يطمرها النسيان.. هكذا أستطيع أن أكتب عن علاقات الناس هنا.. آمالهم الصغيرة وطموحاتهم التي تناسب حجم واحتهم، وخلافاتهم أيضًا.. أستطيع أن أغوص في عمق الواحة بما تحمل من إرث ثقافي وشعبي زاخر، بدون أن تحكمني آليات كتابة القصيدة وتقيد حركتي في فضائها.

وعليه، كنت أعرف أن الشعر لن يفي باحتياجي الشخصي المُلح من هذه الناحية. رغم ذلك أنا أكتب الشعر جنبًا إلى جنب مع الرواية، ذلك أنني أرى أن القصيدة متى ألحت وهطل غيمها فلا مناص عندئذ من إفساح السبيل لها.

أما الرواية فإنها تعتمد اعتمادًا كبيرًا -بالنسبة لي- على الإعداد والتخطيط المسبق وجمع المعلومات أيضًا. أعمل على رواية في الفترة الحالية إلا أن غيمة الشعر تظللني دائمًا، ولا تكف عن الهطول.

معايير مطلقة

• كيف ترى نزاهة الجوائز المحلية والدولية؟

- يبدو أن الجوائز الأدبية هي الشيء الوحيد المتعلق بالإبداع والذي لا نستطيع الاتفاق عليه، وفي موعد إعلان كل جائزة عربية كانت أو أجنبية، تثار أسئلة مألوفة حول الغرض من هذه الجوائز، وما إذا كانت تحتكم إلى قيم جمالية في المقام الأول، وهل ثمة غرض تجاريّ أو إعلانيّ وراء هذه الجائزة أو تلك.

والسؤال المهم هو كيف تتوصَّل لجان التحكيم إلى قراراتها النهائية؟ الأسئلة قديمة قدم الأدب نفسه تقريبًا، فقد اخترع الإغريق المسابقات والجوائز في وقتٍ ما، من القرن الخامس عشر قبل الميلاد، ومنذئذ والتساؤلات لم تنته.

منذ عدة أيام، قرأت مقالًا في صحيفة أجنبية تحت عنون «ما الجوائز الأدبية، ولمن؟» كتبه «دانيال مندلسون» يقول: «نريد أن تكون الجوائز علامات واضحة للتميز».

إذا كان هناك أي شيء تثبته، فإنها تثبت بشكل متكرر أنه لا توجد معايير مطلقة للحكم على الأمور الجمالية. في الألعاب الأولمبية، غالبًا ما تكون معايير الإنجاز المتفوق قابلة للقياس (الوقت، المسافة)؛ على النقيض من ذلك، فإن معايير التميز في الأدب ذاتية تمامًا، سواء بين القراء أو النقاد أو هيئات التحكيم».

مهما كانت الأعمال الفائزة وأيا كانت أسماء أصحابها فإن الشيء الوحيد الذي لا جدال فيه أن الفائز الحقيقي في النهاية هو الثقافة نفسها.

مغازلة المجلات العربية

• ولم المراوحة بين كتابة العامية والفصحى، البعض يرى أن فرص نشر العامية في مصر والوطن العربي أقل من غيرها.. لهذا يرسخون حضورهم الإبداعي من خلال الكتابة بأكثر من شكل أدبي؟

- نعم، البعض يرى القضية بهذه الطريقة، إلا أن الأدب الجيد حتمًا يصل إلى متلقيه دونما جهد، حتى إن كانت قصيدة بالعامية المصرية أو بغيرها.. فرص نشر العامية في مصر كثيرة ومتوفرة إلا أن البعض بالفعل يكتب اللونين، الفصيح والعامي لأنه يستطيع ذلك، لكن تبقى نقطة لا يمكن إغفالها على اعتبار أن بعض كتاب قصيدة العامية يكتبون قصيدة الفصحى لمغازلة المجلات العربية التي تدفع نظير النشر.

أنا أكتب اللونين أيضًا ولا أرى غضاضة في ذلك طالما أستطيع أن أجيد في كليهما.. ولم لا؟ وقد ذابت الحدود بين الأجناس الأدبية فتداخلت وانسجمت مكونة خيمة واحدة كبيرة تظلل صحراء العالم.

من أعمال طارق فراج



جزر الرحمة

• تفرض جغرافية الواحات نمطاً حياتياً مغايرًا لطبيعة الريف المصري، كيف كانت لحياتك في واحة الداخلة تأثيراتها على إبداعاتك؟

- آه، كلما ذكرت الواحات، يرتعش القلب.. يسيل الدم دافئاً في العروق. إنها حقا جزر الرحمة، وقلب الصحراء النابض... أعتقد أن انعزال منطقة ما وبعدها المكاني عن المجتمعات الأخرى يمنحها ميزات لا تتوافر في المجتمعات المتلاحمة المتشابكة العلاقات، أو تلك المجتمعات التي تربط بينها اتصالات مستمرة ودائمة، فعلى مستوى صعيد مصر مثلا نجد أن نهر النيل عمل على اتصال المناطق التي تقع على ضفتيه، بما تحمل من إرث ثقافي منذ قديم الأزل، ذلك الاتصال أدى إلى امتزاج الثقافات بتلك المناطق وذوبانها في نسيج ثقافي واحد وكبير، يمثل كل الجماعات الشعبية التي استقرت على ضفاف نهر النيل بشكل أو بآخر.. فاللهجة الصعيدية تقريبا واحدة فيما عدا اختلافات طفيفة لا تكاد تذكر، وكذا عادات وتقاليد المجتمع الصعيدي وموروثه الثقافي.

أما في الواحات فإن الوضع يختلف تمامًا حيث التميز الواضح في مفردات البيئة ومعطياتها وقاموس لهجتها، وما يتبع ذلك من الموروث الشعبي في الأمثال والعدودة وحنون الحج وأغاني الأفراح، وما يتبعها من تشريعات شعبية تتمثل في الأعراف والتقاليد.

هنا حيث منحت العزلة الجغرافية وبُعد الواحة عن المجتمعات الأخرى قوة في ارتباط الإنسان بالمكان، حتى وإن كنا نعرف إن أهل الواحات هم أخلاط من الناس على حد قول الرحالة العرب.. وددت فقط أن أقول إن كل تلك المعطيات التي ذكرتها آنفاً والتي يمنحها المكان هي التي شكلت ذائقتي الأدبية من البداية.. إذن الإبداع هو هبة المكان الذي يولد وينمو فيه إذا جاز لي التعبير.. العزلة هنا أعطت الكثير، لكنها سلبت منا الكثير أيضاً.

مشرط الأديب الماهر

• تتسم أشعارك بصبغة إنسانية عامة، بينما رواياتك جاءت أكثر التصاقا بالمكان ومحليته إن لم نقل وفرادته.. حدثنا عن أعمالك السردية؟

- أود أن أؤكد على أن الأدب هو منتج هام لتراكم العلاقات التفاعلية بين الإنسان والمكان.. يحفر فيها المكان من ملامحه وخصائصه كما فعل ذلك في العادات والتقاليد، ونستطيع أن نرى ذلك بوضوح عند أهل الواحات في منحوتاتهم وأزيائهم وفنونهم المعمارية وأدواتهم الزراعية ومصنوعاتهم الحرفية وفنونهم الغنائية وآدابهم الشعرية والنثرية ومعارفهم المختلفة. لا شك أن الفاعل المؤثر الأول في تلك الثقافة هو المكان، ومنه استقيت أفكار رواياتي وأجواء قصائدي. فالفن الذي لا يتماهى مع المكان هو فن مبتور، بلا قيمة كبيرة.

إذ ما فائدة أن أفرد أجنحتي وأحلق في عالم فانتازي لا يأبه كثيرًا بمخاوفي وآمالي؟ يتحتم على الأديب أن يقبض على مشرطه بمهارة، ثم يجرح في العُمق... في عام 2003 كتبت رواية بعنوان «الشقوق» طُبعت منها طبعة محدودة وفقيرة، بمجهود ذاتي لأعضاء نادي الأدب.

ثم جاءت رواية «باب للخروج» بعدها بفترة، وتمت طباعتها في عام 2010 ببيروت أما الرواية الثالثة «الهبوط لأسفل ببطء» فقد نُشرت في القاهرة في بداية هذا العام، كما أنني انتهيت من رواية جديدة.. الجميل هو أنني أكتب.

أعمل الآن على رواية أخرى تدور أحداثها -مثل كل سابقاتها- في الواحة، وتبرز علاقات إنسانية كثيرة، وعادات وأعراف أيضًا قاربت على الاندثار.

بالطبع فكرة الجمع تتم معالجتها في كتب أخرى تهتم بالدراسات الشعبية. لكنني أرى أن مجتمع الواحات ما زال يحمل بين ضلوعه روايات لا حصر لها يجب أن تُكتب.

لذا علينا جميعًا كتاب الواحات ألا نتوقف عن المحاولة.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store