Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. بكري معتوق عساس

الوافدون.. وأخلاقيات التعامل

A A
حين تضطركَ الظروفُ للاغترابِ عن وطنكَ وبلدكَ؛ فإنك ستدركُ شيئاً يسيراً مما يعانيهِ كثيرٌ من الوافدين لبلادِنا طلباً للرزق، والتماساً للعيش.

وستدرك حينها أن أكثر ما يُخفِّفُ عنك الغُربة؛ إنما هو ما تلقاه من أهلِ البلدِ من اللطفِ وحسنِ التعامل والمعونة، وهذا هو الهديُ النبويّ الكريم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم).

وهذا الحديثُ وإنْ كان أساساً في الخدمِ والعمال، إلا أنّه أصلٌ في حسنِ التعاملِ مع كلِّ غريبٍ ذي حاجةٍ.

وقد عشتُ -أثناء تجربةِ الابتعاث- قصصاً حفرتْ في نفسي أثراً لا يُمحى.

في الأيام الأولى لوصولي إلى بريطانيا، لم أكن أُجيد الإنجليزية إجادة تامةً، إضافة إلى أني كنت في منطقة ويلز، وهي منطقة ذات لهجةٍ خاصة، ذهبتُ مع صاحبةِ البيت الذي أسكنه إلى معرض السيارات لشراء سيارة، وحين تفاوضتُ مع البائع أخطأتُ في الكلامِ، وتعثّرتْ إنجليزيتي قليلاً، فضحك مني البائع بسخرية. فما كان من العجوزِ صاحبة البيت إلا أن ضربتْ على الطاولة بقوةٍ وصاحت: (wait.. wait)! وجعلت تقول للبائع: هذا الرجلُ هنا منذ أسبوع فقط، ومع ذلك يتكلم بهذه الطلاقة، أتحداك أن تتكلم أنت بجملة واحدةٍ من لغته، فخجل البائع، واعتذر، وقال: لم أكن أقصد الإساءة، ثم خفض لي سعر السيارة بنسبة 5%!.

بعد ذلك بمدةٍ انتقلتُ إلى منطقةٍ أخرى تقلُّ فيها الدورُ المؤجّرة، ووجدتُ بصعوبةٍ داراً مناسبةً، ولكنّ صاحبها اشترطَ عليّ معرِّفاً، وهاتفتُ صاحبتنا العجوز (رونا)، فارتحلتْ من بلدتها إلى هذه البلدة، وقالت للمالكِ: أجّر له كما لو كنتُ أنا! فأعطاني المفتاح وقال: نوقِّع العقد لاحقاً، وادفعْ متى شئت!.

وحين أنهيتُ دراستي، وحلّ موعدُ السفرِ قبل وصول فواتير الماء والكهرباء، قال لي المالك: بوسعك أن تسافر، وحين تصل الفواتير سأبعث بها إليك! ولكني آثرتُ أن أنتظر حتى أسدِّد كل التزاماتي.

تذكرتُ كل هذه المواقف الإنسانية الراقية وأنا جالسٌ ذات يومٍ في مجلسٍ؛ أستمعُ فيه إلى بعض (العربِ المسلمين)، وهم يسخرون من عربيّة وافد أفغانيٍّ! ويتندرون على كلامه المكسّر! وتداعتْ إلى ذهني عشراتُ القصص التي يتناقلها الناس عن إساءة بعضِنا للوافدين، وسخريتهم بهم، وعجبتُ كيف يكونُ الغربيُّ غيرُ المسلمِ أقربَ إلى أخلاقِ الإسلامِ وقيمه من العربيّ المسلم؟، بل من جارِ الكعبةِ؟.

عجبتُ كيف يرضى مسلمٌ - ونحنُ أمةُ الأخوة والجسد الواحد - أن يمتد لسانه أو يده بالإساءةِ إلى أخٍ مسلمٍ جاء يُسهم معه في بناء وطنِه، ويقوم بكثيرٍ من الأعمال التي لا يقوم بها أكثرنا ترفُّعاً عنها، أو عجزاً عن ممارستها.

إنّ حسن معاملة الغريب وإيفاءه حقه، بل والانتصار له ممن ظلمه؛ مقصدٌ شرعيٌّ، وقد حدَّثتنا كُتبُ السير أن أعرابياً مرَّ بمكة ومعه إبله؛ فاشتراها منه أبوجهل، وماطله في الثمن، فقال الرجلُ منادياً: إن أبا الحكم قد غلبني حقي، وأنا رجل غريب، وابن سبيل، فمن ينصرني؟، فقام له النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وأخذ بيده؛ حتى وقف على باب أبي جهل، فخرجَ وقد أذله الله، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: أعط الرجل حقه، فقال: أفعلُ، ووفّاه.

ذلك هو خُلقُ المسلم في تعامله مع مَنْ نزل ببلدِهِ لا يريد إساءةً، يُحسن إليه، ويعطف إليه، وينتصر له. وحريٌّ بكلّ مسلمٍ أن يتمثّل هذه الأخلاق، لأنه -أمام الغريب- يمثّل بلده ودينه.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store