Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

من مذكرات طبيب

من مذكرات طبيب

A A
تشكل صداقتي للمرضى محور عملي وحياتي. خالد رجل أربعيني معافى جسدياً، وذو شعر كثيف أشيب.

كان في الثامنة عشرة من عمره عندما تعرض لحادث سير، فقد على إثره أسرته، وجزءا كبير من ذاكرته. يرقد في المشفى طيلة السنوات الماضية.

تشير تقارير ملفه إلى أنه دخل في غيبوبة كاملة، أفاق منها قبل أيام.

في أول جلسة، أبدى تجاوباً واستعداداً للحديث معي.

- صباحك جميل.

- أهلا وسهلاً.

- حدثني عن نفسك؟

أخبرني باسمه واسم قريته. تحدث عن جيرانه وأصدقائه، وملعبهم الترابي.

تكلم بحماسه عن أسرته، أبوه، أمه، أخته... وتوأمه يوسف!.

وراح يُسهب في سرد آخر مساء يذكره، بتفصيل وحنان.

توقف فجأة! ثم طلب ورقة بيضاء وقلم رصاص. ظل جامداً بلا حراك، مع نظره مرتبكة ومظلمة. ثم شرع برسم ملامح شابٍ مشرقٍ. كان بارعاً في إبراز التقاسيم.

- يشبهك كثيراً!.

- ..........

- ولكن...! لمَ هذه الشامة على الوجنة اليمنى!.

- هذا أخي يوسف – قالها بابتسامة.

كان ممتلئاً بالحيوية وهو يتحدث عن أخيه. راح يتذكر ويحيي الأشياء بخياله.

يكبرني يوسف بسبع دقائق فقط. لكني أقوى منه، انظر..!

شمّر عن عضلاته ثم أطلق قهقهة عالية رجّت العيادة...

استوقفني أنه لا يتكلم بصيغة الماضي، بل بصيغة الحاضر...!

رفعت روزنامة التقويم عن المكتب؛ ثم سألته وأنا أخفي حيرتي: في أي سنة نحن الآن؟

أجاب: في عام ألفين، قالها بكل ثقة! .

باغتّه: كم عمرك الآن؟.

تردد للحظة، ثم قال: أعتقد في الثامنة عشرة! .

شعرت أن الوقت قد حان لإنهاء جلستنا. رافقته الممرضة إلى غرفة تنويمه.

آثرتُ أن تكون الجلسة التالية مليئة بالأريحية والاستلطاف.

- صباح الخير صديقي العزيز خالد.

لم تكن هناك أي علامة على وجهه تدل على تعرفه عليّ! .

سألته : ألم نلتقِ قبلاً؟

- لا، لا أظن ذلك يا دكتور؟

- حسناً، لماذا تدعوني دكتور؟

- من خلال اسمك على المكتب.

- أين تظن نفسك الآن؟

- كل شيء يوحي لي أني في مستشفى ما. ولكن! ماذا أفعل هنا!

هل أنا مريض؟ أم أعمل هنا؟

ربما أعمل هنا؛ فأنا أشعر بشعور جيد ... ما وظيفتي؟

أريته الورقة التي رسم عليها توأمه.ذُهل، وأنكر بأن الرسمة تخصه.

سألني مستنكراً: أين أسرتي؟

قلت وأنا أناوله مرآة: انظر في المرآة، وأخبرني ماذا ترى؟

شحب وجهه فجأة، وأمسك بشعره الأبيض...

هاج بشدة وقام مذعوراً.

صارحته :أنت تعاني فقداً شديداً في الذاكرة الحديثة، خلاف الماضي الذي تعيشه بوضوح.

تغير لونه، ثم قال:

- إذاً أنا مريض، وتلك مشكلتي..!

اصطحبته إلى النافذة، أشار إلى أولاد يلعبون كرة القدم. استعاد لونه وبدأ يبتسم.

انسحبتُ بهدوء...

كنتُ معصوراً بالعاطفة نحوه، لقد كان روحاً ضائعة.

تاهت حياته في حالة من عدم اليقين، وأذابها النسيان.

عايدته هذا الصباح في حجرته.

عندما فتحتُ الباب، التفتَ ناحيتي، وارتسم على وجهه تعبير بهيج.

قال: أهلاً وسهلاً! تريد أن تتحدث إليّ.. ؟

قلت له : هل تسمح لي أن أجري عليك بعض الاختبارات؟ وإن تجاوزتها؛ فسآخذك لفسحة خارج حدود المستشفى.

أظهر خالد مقدرة ممتازة في اختبار الذكاء، كان سريع البديهة وشديد الملاحظة. ليست لديه أية صعوبة في حل المسائل السريعة.

لكنّي اكتشفت أن آثار ذاكرته الحديثة سريعة الزوال، وعرضة لأن تمحى في غضون دقائ !. عدا بعض الصور الباهتة عالقة كصدى مبهم أو شعور بالاعتياد.

فقد وضعت أمامه قلما وسماعة ومذكرة صغيرة، وطلبت منه أن يذكرها، ومن ثم غطيتها.

وبعد أن تحادثنا لبرهة، سألته عن الأشياء التي وضعتها تحت الغطاء، لم يستطع أن يتذكر شيئاً منها.

ألزمته أن يحتفظ بدفتر يوميات، يدون فيه يومياته، أسماء شخوص وأماكن، تجاربه، مشاعره وتأملاته...

كتبتُ في جدول بياناته : "حياة مبكرة يتذكرها خالد بصورة حية. ولكن لسبب ما، توقفت ذكرياته هناك. وهذا يؤكد بأن توقف ذاكرته عند العام ألفين كان حاداً، مما خلف لديه هفوات عميقة في الذاكرة الحديثة".

طمأنته بأني لازلت على وعدي له بالفسحة.

ظل مبحلقاً، ثم تمتم: أي فسحة...!

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store