الحياة تعمر بنبضات القلب، وهذا ما يدركه المتميزين الذين يسعون لإحداث تغيير في حياتهم ومجتمعاتهم. ومن بين هؤلاء المتميزون الدكتور بيتر جيفري فابري، الذي كان يعمل كجراح في مدينة تامبا بولاية فلوريدا، ولديه خبرة تزيد عن 50 عامًا في مجال جراحة الجهاز الهضمي وتحول إلى أستاذ جامعي في الهندسة الصناعية . اضطر إلى التوقف عن ممارسة مهنته بسبب اهتزاز يده الذي يؤثر على دقة التدخلات الجراحية. ولكن هذا لم يثنه عن حبه للحياة وإيمانه بقدراته، فقرر أن يستغل خبرته الطبية وشغفه بالهندسة الصناعية، ليقوم بتقديم استشارات وحلول للمشكلات التي تواجه المستشفيات وغيرها من المؤسسات الصحية.
والدكتور بيتر ليس وحده في هذا التحول المهني، فهناك إقبال متزايد لدى خريجي كلية الطب والعلوم الصحية بشكل عام للالتحاق ببرامج الماجستير في الإدارة التنفيذية، بهدف تطوير مهاراتهم الإدارية والقيادية، وزيادة فرصهم في سوق العمل. ولا يقتصر هذا الاتجاه على خريجي الطب فقط، بل يشمل أيضًا خريجي العلوم والفنون، الذين يسعون للاستفادة من التخصصات المتقاطعة بين مجالات مختلفة. ولكن هذا التحول المهني لا يعني التخلي عن التخصصات الأصيلة، بل يعني تحديثها وتطويرها لمواكبة متطلبات العصر الحديث.
في عالم مليء بالتحولات والتطورات التكنولوجية، تبرز قصة الدكتور بيتر كمثال يُجسِّد تحديات وفرص جديدة أمام مجموعة متنوعة من التخصصات الجامعية. حيث تشهد الجامعات على تغييرات تتضمن إغلاق بعض التخصصات النظرية أو تقليص القبول فيها. لكن من خلال مثل هذه القصص، يمكن استثمار هذه التحديات لإيجاد حلاً علميًا وإبداعيًا لتطوير وتنويع هذه التخصصات بدلاً من إغلاقها. تتجلى أهمية تكامل التخصصات التقليدية مع التطبيقات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي في السعي للحفاظ على جاذبية تلك التخصصات وتجديدها. تستطيع التخصصات الأساسية والمتخصصة في مجال التربية الاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي لتعزيز فعالية عمليات التعليم وتحسينها بشكل شامل. يتضمن ذلك تحسين أساليب التقييم وتحفيز عمليات التعلم، إضافةً إلى تطبيق هذه التقنيات في المجالات الإدارية وتعزيز جودة الأداء ومحاكاة السيناريوهات. تعد قصة الدكتور بيتر دافعًا قويًا لإعادة تأهيل التخصصات الجامعية لتواجه تحديات ثورة الذكاء الاصطناعي. فهذه الثورة تمتلك تأثيرات واسعة على مختلف جوانب حياتنا، وتساهم في تقدم المجالات العلمية والصناعية والخدمية. لذلك، تطوير قدرات الهيئة الأكاديمية للاستفادة من هذه التقنية من خلال برامج إعادة التأهيل التي تجمع بين التخصصات التقليدية والمستقبلية. تجسد هذه البرامج الفرصة لتزويد الأعضاء بأدوات العصر الحديث والمعرفة اللازمة لنقل المعرفة بطرق أكثر تطبيقية وملاءمة للواقع التقني المتطور. هذا النهج يمكن أن يلهم الطلاب ويشجعهم على التفاعل بفاعلية مع المحتوى الدراسي المقدم.
مع تزايد تأثير التقنيات المتقدمة في المستقبل، تطرح الأسئلة التي تحيط بتأثير الذكاء الاصطناعي على التخصصات الجامعية. هل ستتغير طرق التدريس والتعلم للطلاب والأساتذة بهذا السياق؟ هل سيزيد الطلب على بعض التخصصات التي ترتبط بالتكنولوجيا المتقدمة، أم قد يتراجع؟ وهل سيسهم الذكاء الاصطناعي في إبداع تخصصات جديدة تتعامل مع تطبيقاته المتنوعة؟
في الحقيقة لا يوجد إجابات نهائية أو محددة لهذه الأسئلة، ولكنها مجرد استقراءات للمستقبل في ظل المعلومات المتاحة حالياً والتي تتغير بسرعة فائقة. إن تأثير الذكاء الاصطناعي كبير على التخصصات، ولتقريب الفكرة سيتم تسليط الضوء على أربع كليات شائعة ومهمة: الطب، والهندسة، والإدارة، والتربية. وسأبرز كيف سيغير طرق التدريس والتعلم في هذه التخصصات، وما هي الفوائد والتحديات التي قد تنتج عن ذلك.
الطب: في دراسة نشرت في مجلة Nature Medicine أفادت بأن نظام الذكاء الاصطناعي قادر على تشخيص بعض أنواع السرطان بدقة تفوق دقة 96% من الأطباء. وكذلك الاستخدام الذكي للتحاليل المخبرية يسهم في اكتشاف الأمراض المعدية والوبائية بشكل أسرع. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للروبوتات المساعدة بالذكاء الاصطناعي تحسين دقة وسلامة العمليات الجراحية.
الهندسة: حسب تقرير نشرته [MIT Technology Review]، فإن استخدام نظام الذكاء الاصطناعي قادر على تصميم الدوائر الإلكترونية بشكل آلي، وبسرعة تفوق سرعة 200% من المهندسين. كما أن استخدام الذكاء الاصطناعي في مجال الأتمتة والروبوتات قد يساعد في تحسين جودة وكفاءة عمليات التصنيع والإنشاءات، وتقليل استهلاك الموارد والطاقة. وفي مجال الإدارة والتحكم، فإن استخدام الذكاء الاصطناعي في مجال الأمن والجودة، فإن استخدام الذكاء الاصطناعي قد يساعد في تحليل وتقييم وتحسين أداء وموثوقية الأنظمة والمنتجات الهندسية، وتجنب المخاطر والأخطاء.
الإدارة: حسب تقرير نشرته [Harvard Business Review]، فإن استخدام نظام الذكاء الاصطناعي قادر على تحليل بيانات كبيرة ومتنوعة من مصادر مختلفة، وإخراج نتائج وتوصيات ذكية للمديرين في مجالات مثل التسويق والمبيعات، والمحاسبة والتمويل، والموارد البشرية والقيادة، والاستراتيجية والتخطيط.
التربية: حسب تقرير نشرته [UNESCO]، فإن استخدام نظام الذكاء الاصطناعي قادر على تقديم برامج تعليمية مخصصة ومتكيفة لكل طالب، وفقا لمستواه، واحتياجاته، واهتماماته. كما أن استخدام الذكاء الاصطناعي في مجال التقويم والتغذية الراجعة قد يساعد في تقديم تقييمات دقيقة وشاملة لأداء الطلاب، وإعطائهم ردود فعل فورية وبناءة. وفي مجال التعلم المدمج والتعلم عن بعد، فإن استخدام الذكاء الاصطناعي قد يساعد في توفير بيئات تعليمية غنية ومتنوعة، وزيادة التفاعل والتعاون بين الطلاب والمعلمين.
رغم التقدم الواعد في مجال الذكاء الاصطناعي، يظل التعاون بين الإنسان والتكنولوجيا أمرًا أساسيًا. يأتي دور الذكاء الاصطناعي كمساهم مدعوم وداعم للمجالات المذكورة سابقًا، دون أن يستبدل الإنسان، بل كشريك مستدام يساهم في تحسين الأداء والنتائج. لذلك، ينبغي للخبراء والمختصين في هذه التخصصات التفاعل مع تقنيات الذكاء الاصطناعي بفهم عميق وتطبيق متقن. تعزيز التعاون بين مختلف التخصصات. فالتفاعل بين مجموعة متنوعة من الخبرات مثل علوم الحاسوب والإحصاء والطب يمكن أن ينتج عنه تطوير حلول هندسية متكاملة وشاملة، تتلاءم مع مستقبل قابل للتغيير.
تتجه المملكة العربية السعودية بثبات نحو تحقيق الريادة العالمية في مجال الذكاء الاصطناعي، وذلك من خلال توجيه جهود متكاملة نحو تبني التكنولوجيا الذكية والابتكارات التقنية. بداية يتبوأ صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء، دورًا محوريًا في دعم هذه الرؤية، حيث أكد أن التقنيات الجديدة مثل الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء ستسهم بشكل كبير في تحقيق الفوائد الضخمة وتفادي المخاطر. تتمثل جهود المملكة في تطوير مجال الذكاء الاصطناعي في مجموعة من المبادرات والمشاريع. تتقدم جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية على الساحة، حيث تستثمر بشكل فعّال في تقنيات الذكاء الاصطناعي من خلال اقتناء رقائق متطورة وإنشاء حواسيب خارقة مثل "شاهين 3"، وهذا يعكس التزامها بالتطور التكنولوجي والابتكار. علاوة على ذلك، تسعى المملكة إلى تمكين الشباب من مجال الذكاء الاصطناعي من خلال مبادرات تعليمية رائدة. كما قدمت الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا) بالتعاون مع وزارة التعليم برنامج "مبرمجي ذكاء المستقبل"، الذي يهدف إلى تدريب طلاب وطالبات المرحلتين المتوسطة والثانوية على أساسيات تقنيات الذكاء الاصطناعي، وكل هذه خطوات مهمة نحو تأهيل كوادر واعدة متخصصة. وفي إطار التطلع نحو مستقبل مستدام، أطلق مجلس الوزراء المركز الدولي لأبحاث وأخلاقيات الذكاء الاصطناعي. يأتي هذا المركز ليكون منصة عالمية تعنى بمعالجة التحديات الأخلاقية والأمنية المرتبطة بتقنيات الذكاء الاصطناعي، وهو ما يعزز دور المملكة القيادي في تشكيل المستقبل المأمول لهذه التقنية الحيوية.
من خلال هذه الجهود المتكاملة، تظل المملكة على الطريق الصحيح لقيادة مجال الذكاء الاصطناعي عالميًا وتحقيق تطورات ملموسة في هذا المجال الاستراتيجي. وعليه يتبين أن تطوير التخصصات والمجالات الأكاديمية يعد أمرًا حتميًا لمواكبة هذه التحولات. إن تغيُّر العالم واقتصاده يتطلب تطوير مستدام ومنهجي للتعليم والتدريب. من الضروري أن نُلقي نظرة متجددة على التخصصات النظرية الكلاسيكية، وذلك لتواكب تحديات الواقع الحديث. فالعلوم الأساسية هي الأساس الذي يستند عليه تطور التخصصات التطبيقية، وبدونها لا يمكن للمهندسين والمختصين تطوير وابتكار التقنيات الجديدة. هنا يكمن أهمية تفعيل دور تخصصات التربية وعلم النفس في تطوير مناهج التعليم لتواكب تطورات العصر، ومساعدة الأجيال الصاعدة في التعامل مع التحديات النفسية والاجتماعية المتعلقة بالتكنولوجيا. بينما نشهد تطورات مذهلة في مجالات متعددة كالهواتف الذكية والانترنت ووسائل النقل والصناعات المتقدمة، ويتعين علينا أن نتحرك نحو إحداث ثورة حقيقية في نهجنا التعليمي، تشمل أنظمة القبول واشتراطاتها ابتداءً، وآلية التجسير للدبلومات مع البرامج الجامعية ومن ثم تبني تكنولوجيا حديثة وأساليب تعليمية مبتكرة. تخصصات المستقبل تحتاج إلى جهود تنسجم مع آفاق العالم الحديث والجامعات والمؤسسات التعليمية في مقدمة الداعمين لهذا التطور، من خلال إعادة تأهيل الكادر الأكاديمي وتطوير المناهج وتوفير البنية التحتية المناسبة. فالطبيب الدكتور المهندس بيتر جيفري فابري يقف مثالًا ملموسًا على مدى أهمية التحول المهني من خلال التعلم المستمر وتطوير الذات. فالحياة تتطلب منا الاستمرار في التعلم والتطور، ولا يمكن لأي شخص أن يستغني عن تعلم المزيد من المعرفة والمهارات. فالحياة لا تتوقف على نبضة قلب واحدة، بل تستمر بنبضات كثيرة.
dr.ahanbazazah@gmail.com