منذ انطلاق "رؤية المملكة ٢٠٣٠" بمباركة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وبقيادة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء، يشهد قطاع التعليم منجزات نوعية وتطورات متسارعة تتماشى مع أهداف الرؤية وبرامجها؛ وتشكل المراكز المتقدمة التي تحققها الجامعات السعودية على جامعات العالم في التصنيفات الدولية بالإضافة للجوائز الفردية والجماعية لطلاب التعليم العام والجامعي إشارات متواصلة على فاعلية السياسات التعليمية الأخيرة.. وتتوج أيضاً جهود برنامج تنمية القدرات البشرية وهو أحد برامج الرؤية والذي يستهدف جميع المستويات العمرية والفئات التعليمية من أجل خلق مواطن منافس عالمياً. ويعمل البرنامج عبر ثلاث ركائز تتمثل في تطوير أساس تعليمي متين ومرن للجميع، الأعداد لسوق العمل المستقبلي محليا ودوليا، وإتاحة فرص التعلم مدى الحياة. في صميم هذه الركائز توجد سياسات وأهداف منها توفير معارف ذات أولوية في سوق العمل لطلاب التعليم العالي عبر زيادة نسب الطلاب المنتسبين للتخصصات العلمية ونسبة المنظمين لبرامج التدريب الفنية والتقنية، ولتحقيق هذه المستهدفات خفضت أغلب الجامعات السعودية نسب القبول في التخصصات الإنسانية مع زيادتها للتخصصات العلمية والتقنية. دفعت هذه السياسات الوطنية البعض للتساؤل عن جدوى البرامج الأكاديمية الإنسانية في التوجهات المستقبلية لسوق العمل، وكيف من الممكن أن تساهم هذه التخصصات وتكون أكثر فاعلية في رؤية المملكة.
في الواقع، بالإمكان للتخصصات الإنسانية أن تتكيف مع هذه التغيرات في التوجهات وأن تسهم وبشكل فعال في رؤية المملكة عبر تأهيل كوادر وطنية بمهارات ومعارف تخصصية دقيقة. هذا التكيف يتمثل بابتكار برامج نوعية وبينية "interdisciplinary" بين البرامج الأكاديمية في مراحل البكالوريوس والتي يتطلبها سوق العمل وتتماشى مع رؤية المملكة ٢٠٣٠ مع إعادة تنظيم نسب القبول في برامج البكالوريوس الإنسانية الأساسية بالتوازي مع البرامج البينية المستحدثة. من شأن هذه الخطوة أن تمد سوق العمل -خصوصاً المحلي- بمخرجات أكثر اطلاعاً ومعرفة في موضوعات علمية وإقليمية معينة. على سبيل المثال، ينتشر في أغلب الجامعات العالمية كليات وبرامج عن دراسات المناطق تقدم درجات البكالوريوس المعنية بأقاليم محددة -كالدراسات الأفريقية والدراسات الشرق آسيوية- والتي تؤهل خريجين أكثر اطلاعا ومعرفة بلغات، ثقافة، وسياسة تلك العوالم. تصاغ الخطط الدراسية والمستهدفات لهذه البرامج عبر جهد مشترك من عدد من أعضاء هيئة التدريس الخبراء بتلك الأقاليم في أقسام اللغات، الاقتصاد، التاريخ، علم الاجتماع، والعلوم السياسية. ومن شأن هذه البرامج أن تمد القطاع الخاص والحكومي بكوادر مؤهلة لغوياً ومتخصصة بإقليم محدد وباطلاع متعمق بالبيئة الاقتصادية، الاجتماعية، والسياسية لهذه الأقاليم. وبالعادة يتم تعزيز هذه البرامج من خلال استقطاب أساتذة جامعات من تلك المناطق أيضاً. وعلى العموم، تمثل دراسات المناطق نموذجاً واحداً من عدة برامج بينية مشتركة في التخصصات الإنسانية والتي تطرح في مختلف الجامعات العالمية مثل الإعلام السياسي، السياسات البيئية، الدراسات العرقية، وغيرها. هذا التكيف عبر استحداث برامج بينية تتناسب مع سوق العمل يتماشى مع ركائز برنامج تنمية القدرات البشرية من خلال توفير برامج مرنة ومتناسبة لمتطلبات وتطلعات جهات التوظيف.
العمل في مسار التكيف مع برنامج تنمية القدرات البشرية والتغيرات في التوجهات العامة في سوق العمل ليس فقط المسار الوحيد الذي يمكن أن تساهم فيه التخصصات الإنسانية؛ بل أيضاً بإمكانها وعبر أقسام ومعاهد اللغة العربية أن تشكل قوة ناعمة للمملكة عبر عقد شراكات مع جامعات دولية لاستقطاب طلابهم لتعلم اللغة العربية والتعرف على ثقافة وتاريخ المملكة. إن التغييرات الاجتماعية، الاقتصادية، والتقنية العظيمة التي تشهدها المملكة سيكون لها عظيم الأثر في تجربة الطلاب الدوليين وسترسم انطباعاً إيجابياً يتناقلونه في موطنهم الأصلي.
إن صياغة اتجاهات جديدة للتخصصات الإنسانية لتكون أكثر مرونة وفاعلية في تلبية الاحتياجات الوطنية يتطلب جهدا مشتركا بين الجهات المعنية كوزارة التعليم، وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، والجامعات السعودية لتأسيس قنوات تواصل تعالج معوقات العمل على تعزيز دور التخصصات الإنسانية في رؤية المملكة ٢٠٣٠.