يمر الزمن ويرحل العظماء، ويبقى البلطان شبل الليث وعرينه الحصين، شامخا بالذكرى وجمال الأمكنة وعذوبة الأزمنة، التي صنعت مجداً وتاريخاً يدون نفسه وينقش من مآثر الشباب العظيمة.
خرج وفي فيه ماء، وعلى مقلتيه دمعة تتأرجح بين نفرة واستكانة، وعلى شفتيه قصيدة اعتذار للبدر: ابعتذر، عن كل شي... إلا الجراح.. ما للجراح إلا الصبر.
على وقع تحرك صندوق الاستثمارات، وترقب الطيورالجارحة، وعذوبة أحلام البارحة، يفاجئنا آخر عناقيد الرجال الأوفياء للكيان الشبابي خالد البلطان بخبررحيله الأخير... رحلة اللاعودة.
له قصة يطول شرحها من الولاء والانتماء، الثقافتان المتلازمتان في عرف وثقافة البلطان، تأملته بالتعمق والتأمل فرأيته لا يستسلم لمعوقات الحياة ولا متاريسها ولا لندوبها المتعبة، يبحر من أجل الشباب في المعقول واللامعقول، ولا تختلط على قواميسه المصطلحات، ولا يُربكُ إيقاعاتهِ ضعف وقلق.
البلطان الظاهرة الرياضية والفيلسوف واللسان الحر الذي ملأ الشباب بياضا ويمنا وسخاء، ورتل له المزامير، بكينونة العطاء والتفرد، ليقول: هنا تكمن حقيقة من يعشق الشباب، ويصبو لقيثارة الشباب، ومعراج الجمال والذوق الكروي الرفيع.. نقشها بريشة من بهاء، وبنقاوة لا تكدرها الأيام العبوس، مستنيراً بعطائه، مستضيئاً بضيائه، كبيرا بفكره، عظيما بمبادئه وقيمه، مؤمنا برؤيته وأفكاره السامية، صفحة بيضاء هادئة وسكينة مطمئنة، تاريخ الشباب، جماله وجلاله، عفويته وطيبته وبساطته، بين حضوره وغيابه ذاكرة يسيل منها العطر المعتّق.. يتقمص حينا شخصية الرسَام والموسيقي، فينزف ألوانا وأفكارا ليمنحك العبور إلى ذاته الانسانية البسيطة وكأنك تقرأ كتابات كافكا، وحينا متمازجا بشفافية قلعة الجمال بيكاسو، وحينا ثالثا، متلبسا بأنشودة طلالية عتيقة:
الليل ما يحلا إلا بجلاسه
والقلب ما يسلى أهل الهوى وناسه... وأنت الحلا كلـه
وأنت الهوى وأهله يا حلو يا غالي... يا زينة المجلس
ليصبـح لوحة فنيـة متكاملة، متسما بجمالية فائقة وتناغم طاغ، يدافع عن ناديه بقواف مرتبة منمقة، وترانيم وجدانية ساحرة. وبالكلام الأسود المر وقساوة الزير سالم، والمهلهل، وعنترة، لكل من يدس السم في دسم الشباب.. أو يعكرصفو الشباب.. متيقنا أن أجيال الشباب القادمة والحاضرة ستسأل عن جائحة الحقد، وأصحاب الأجندات السوداء، الذين أعجبتهم إكذوبة الذئب وقميص يوسف، متفائلين أن يخلو لهم وجه أبيهم، وقد بيتوا فكرة غيابات الجب، ليمر الزمان المر، ولم يأتِ هذا الذي يُغاث الشباب فيه ويعصرون، ولم يجدوا قمحاً في سنبلهِ، والبقرات العجاف أصبحن سمانا، فقد أكلن كل السنابل، ولم يصدق ناقل الرؤيا التي تناقلوها صاغرعن صاغر، أما عابرها فقد تاه في متاهات الأبراج والمجرات، وهندسة التنجيم والغاز الفلك والحسابات، ورجع الشبابيون برحالهم فارغة.. يتأملون ما قاله البلطان عن البقرات وعن البئر وعن أخوة يوسف، وتحذيره على الدوام من الجرذان التي تريد أن تدمر سد مأرب.
وكم حذر من عبث العابثين، وإسفاف وسفاهة العابرين، ومن فوضى ربيعٍ غير خلّاق.. وعى هذا الداء مبكرا.. بحكم التجربة والخبرة والرصيد الثقافي، والإرث القيمي وعلما يقينيا بمن غاصت سواعدهم في عمق الأنانية والعنجهيات ليحتسى الشباب من اللظى ما فاض وغاض، ولسانهم: أنا ومن بعدي الطوفان..
أخيرا خالد البلطان، أبو الوليد: في كل حين عليك السلام فأنت البداية، وأنت الختام.
wwwzizw999@gmail.com