دائمًا ما أتحدَّثُ على أنَّ الصناعة هي الحلُّ الأهم لتقدُّم الأمم، فهي وحدها القادرةُ على تبديل شأن الدُّول من حالٍ إلى آخر، ولكنَّ البعض يتحدَّث على أنَّ إعداد صناعة قويَّة قادرة على المنافسة عالميًّا، لن يكون سهلًا؛ نظرًا لأنَّ الدُّول الصناعيَّة الكُبْرَى هي مَن تمتلك دفَّة المبادرة في الصناعة، وهذا صحيح، ولكن ليس بنسبة 100%، فهذا الكلام قد يكون قاصرًا على بعض الصناعات التكنولوجيَّة المتقدِّمة جدًّا، ولكن ماذا عن الصناعات الغذائيَّة، خاصَّةً صناعة المشروبات الغازيَّة، فهل هذه الصناعات في حاجة إلى امتلاك تقنيات تكنولوجيا متقدِّمة يصعب علينا إعدادها؟ بالتأكيد لا، فمعظم الصناعات الغازيَّة نشأت في نهاية القرن الـ19، وبداية القرن الـ20، من خلال بعض الوصفات الطبيَّة في الصيدليَّات بإمكانيَّات بسيطة جدًّا، فصناعة البيبسي -على سبيل المثال- بدأت على يد الشَّاب كاليب برادهام، حيث قام بإعداد وصفة في الصيدليَّة، لكي يقدِّمها إلى زبائنه، لينجح المشروب، وينتشر كالنَّار في الهشيم في كلِّ دول العالم، أمَّا عن مشروب كوكا كولا هو الآخر فقد اُخْترع على يد صيدلانيٍّ يُدعى جون ستيت، حيث كان يقدِّمه إلى زبائنه على أنَّه مفيدٌ لتخفيف آلام الصداع، وطرح في البداية كمشروبٍ طبيٍّ، ومن ثَمَّ انتشر في الأسواق وسُمِّي بمشروب «الكوكا كولا» نسبة إلى مكوِّناته الرئيسة «أوراق الكوكا وجوز الكولا».
رغم بساطة الفكرة في البداية، إلَّا أنَّ هذه الشركات انتشرت عالميًّا، وأصبحت تمتلكُ أفرع أشبه بشبكة العنكبوت في كلِّ الدول تقريبًا، فشركة بيبسيكو توزِّع منتجاتها في أكثر من 200 دولة حول العالم، وبلغت عائدات الشركة في عام 2022م 86 مليار دولار، ووصلت القيمة السوقيَّة للشركة 229 مليار دولار، وحقَّقت 22 علامة تجاريَّة تمتلكها شركة بيبسيكو في 26 يناير 2012 مبيعات للشركة قُدِّرت قيمتها بما يزيد عن مليار دولار؛ ممَّا يجعلها ثاني أكبر شركة للأغذية والمشروبات في العالم، وأكبر شركة للمشروبات والأغذية في أمريكا الشماليَّة، واحتلَّت شركة بيبسيكو في عام 2018 المرتبة الـ45 في قائمة فورتشن 500 لكُبْرَى الشركات الأمريكيَّة من حيث إجمالي الإيرادات التي تنشرها مجلة فورتشن الأمريكيَّة سنويًّا.
أمَّا شركة كوكا كولا، فقد حقَّقت عائدات تُقدَّر بـ43 مليار دولار، وبلغت القيمة السوقيَّة للشركة 247 مليار دولار، وأصبحت الشركة تمتلك 21 علامةً تجاريَّةً مختلفة بمليارات الدولارات، وتبيع الشركة منتجاتها في كلِّ بلد تقريبًا في العالم، وتُعتبر كوبا وكوريا الشماليَّة هما الدَّولتان الوحيدتان اللتان لم يتم بيعهما فيهما رسميًّا.
تعتمد شركات المياه الغازيَّة العالميَّة على الصمغ العربي السوداني، الذي يشكِّل 70% من الإمدادات العالميَّة، حيث يُعدُّ مكوِّنًا رئيسًا لكلِّ شيء، بدءًا من المشروبات الغازيَّة إلى الحلوى، ومستحضرات التجميل، ويبلغ الإنتاج العالمي من الصمغ العربي حوالى 120 ألف طن سنويًّا، بقيمة 1.1 مليار دولار، ويمثل الصمغ مصدر رزق لآلاف السودانيِّين، ويمكن أنْ يبلغ سعر الطن من أغلى أنواعه حوالى 3000 دولار، وهذا يعني أنَّ شركات المشروبات الغازيَّة تعتمد على السودان بشكل رئيس في صناعة هذه المشروبات، وهو ما يطرحُ السؤالَ حول ضرورة أنْ يستفيد العربُ من ثرواتهم، بدلًا من بيعها موادَّ خامٍ بحفنة من الدولارات.
إنَّ المنح والفرص تُولد من الأزمات، فالحربُ التي تُشنُّ على قطاع غزَّة، أدَّت لتدشين الكثير من حملات المقاطعة على مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ ضدَّ المشروبات الغازيَّة، وبعض المنتجات الأخرى، الخاصَّة بالدُّول الدَّاعمة للاحتلال الإسرائيلي، والبحث عن منتجات محليَّة، ولذلك من الضروري استغلال هذه الفرصة قدر الإمكان، خاصَّةً أنَّ الرَّأي العام المحليَّ والعربيَّ والإسلاميَّ سيكون داعمًا وبقوةٍ، خلال هذه الفترة لأيِّ منتج محليٍّ بجودة مماثلة، ولك أنْ تعلم أنَّ شراء المنتجات المستوردة يُؤدِّي إلى توفير فرص عمل للعمَّال الأجانب، وزيادة نمو الاقتصاد الاجنبي، وشراء المنتج المحلي يؤدِّي إلى توفير الكثير من فرص العمل، وزيادة نمو الاقتصاد الوطني.
وأخيراً وليس آخراً، فما أريدُ أنْ أقوله إنَّ فكرة إعداد صناعة قوية أمرٌ ممكنٌ، حتى إذا كانت هناك عقبات من الدول الغربية أمام توطين بعض الصناعات المتقدمة، فيجب الاهتمام بالقطاعات الصناعية الأخرى مثل صناعة المشروبات الغازية، وأبرز مثال على هذا الكلام هو أنَّ القيمة السوقيَّة لشركة كوكا كولا، وشركة بيبسي -معاً- تقدر بـ500 مليار دولار تقريباً.