من همس الذاكرة

ها أنا في الأربعين وأجدني كلما رأيت رجلاً نحيلاً تعود بي الذاكرة بعيدًا جدًا إلى الوراء.. إلى حيث كنت في الابتدائية.. حيث كانت الذاكرة بيضاء ملساء.. تتأثر بأي لون وبأي خدش!

لكن لِم تحديدًا الرجل النحيل؟


الإجابة تكمن في أنني نعمت برفقة صديقين وشقيت برفقة ثالث كلهم في غاية النحول! وكلهم ممن لم أنسهم حتى الآن.

ولئن اتفقوا في هذه الصفة فقد افترقوا في أرواحهم كثيرًا كثيرًا.. كان أوّلهم خجولاً جدًّا لا يكاد صوته يسمع.. كريم النفس.. عرض عليَّ مرارًا أن أشاركه فطيرته التي أعدتها له أمه بعناية.. سريع الدمعة مثلي.. لكن دمعتي السريعة كانت تأثرًا بالمَشاهد لا خوفًا من عقاب الأستاذ كما حصل معه مرارًا.. مازلت حتى الآن أحمل من الكره الكثير لأستاذ أغلظ العقاب له أمامنا حتى جعله يبلل ملابسه من الرهبة!


وأما الثاني فقد كان مشاغبًا.. لا يكف عن إلقاء الطرائف والقصص المضحكة وأغلبها مما لا يمكن التصريح به! كان رفيقي في المشي نحو البيت حين يغيب السائق.. كان بيته قريبًا من المدرسة وبيتي بعيدًا.. مما يجعلنا نسير ببطء.. أتساءل الآن كيف أن للطفل الصغير حساباته المنطقية الخاصة به! كان صديقي هذا مغرمًا بالحديث عن الفتيات الجميلات وكنت دونه بكثير في هذا الجانب.. لذا فقد شد انتباهي كثيرًا.. حين أسترجع أحاديثه أضحك بعمق.. كيف أنّ كذب الأطفال ورواياتهم المختلقة جميلة بريئة!

وأما ثالثهم فقد كان متزمتًا شديدًا.. كيف لطفل في الثامنة أن يكون كذلك؟ ورطني صديقي هذا مرة في أسوأ عقاب مدرسي حصلت عليه حين ذقت عصا الوكيل تجلد يدي الصغيرتين ثلاث عشرة مرة.. أرأيتم كيف أن الرقم لم يُنس! لا أدري لم توقف الوكيل عند هذا العدد من الجلدات؟ ولماذا كنت أعد الضربات الموجعة بعناية؟ لم يكمل صديقي هذا عامه الثاني حيث انتقل إلى مدرسة أخرى ولكن ذكراه لم تنتقل.. وأصبح نموذجًا للتزمت كلما واجهني في موقف ما!..

لم ألتق بأحد من أصدقائي الثلاثة بعد الابتدائية.. قبل سنوات قليلة وبعد صلاة الفجر في أحد الأيام.. ذهبت بسيارتي وتوقفت بجوار المدرسة.. أعدت الخطوات القديمة وتوقفت أمام بيت صديقي المشاغب فوجدته مهجورًا تمامًا! وغير بعيد عنه العمارة التي تحتضن شقة صديقي الخجول الكريم.. ولم أجد فيها ما يدل على حياة أيضًا!

تمضي الحياة والذكرى لا تمضي.. نكبر والطفل داخلنا لا يكبر.. بداخلي أمنية بسيطة الآن.. ليتني ألتقي بهم ثلاثتهم لأخبرهم كم هم مهمون في الذاكرة حتى الآن.. بطبيعة الحال لا أتوقع النحول ملازمًا لهيئتهم ولكني سأراهم بالصورة ذاتها مهما اختلفت المظاهر!

أخبار ذات صلة

"اسبقها" تحفّز المجتمع على ممارسة الرياضة
"اسبقها" تحفّز المجتمع على ممارسة الرياضة
بيفولين ومان أوف ذا نايت يتقاسمان نجومية الأسبوع الأول من موسم سباقات الرياض
بيفولين ومان أوف ذا نايت يتقاسمان نجومية الأسبوع الأول من موسم سباقات الرياض
البارالمبية الدولية تعتمد التعديلات الجديدة
البارالمبية الدولية تعتمد التعديلات الجديدة
الرياض تحتضن النسخة الثانية من منتدى العالم القادم نهاية أغسطس المقبل
الرياض تحتضن النسخة الثانية من منتدى العالم القادم نهاية أغسطس المقبل
;
أعذبُ الحبِّ
الكواكب الحسان
إبراهيم (ابر) طالع... والقصيدة النِّبراس!! مقاربة نقدية في التجربة الشعرية.. والمآلات الثقافية (2 - 2)
الرأي الآخر
;
إبراهيم {ابر} طالع... والقصيدة النبراس!! مقاربة نقدية في التجربة الشعرية.. والمآلات الثقافية {2 - 2}
خطر ثلاثي على مشاهدي الدراما العربية
مقاهي القاهرة الثقافية.. شيخوخة في الرمق الأخير
العلاقات أفسدت مشهدنا الأدبي وأفقدت الثقة فيه الجبيري:
;
الجبيري: العلاقات أفسدت مشهدنا الأدبي وزيّفت شعوره وأفقدت الثقة فيه
أدباء: «هيئة الثقافة» استفادت من تراكم التجارب وأمامها عمل كبير
إبراهيم (ابر) طالع... والقصيدة النِّبراس!! مقاربة نقدية في التجربة الشعرية.. والمآلات الثقافية (1 - 2)
إبراهيم (ابر) طالع... والقصيدة النِّبراس!! مقاربة نقدية في التجربة الشعرية.. والمآلات الثقافية (1 - 2)
عبدالله العامر: زمن المسلسلات انتهى
عبدالله العامر: زمن المسلسلات انتهى