Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

“خارطة مزاج عالمية”

سألني إعلامي صديق عبر موقع التواصل الاجتماعي «فيس بوك» عمّا إذا كان لديّ تفسير معقول لما يشهده العالم من ثورات، وتحوّلات، وكنتُ قد تلقيتُ نفس السؤال من رئيس تحرير مطبوعة تصدر باللغة الإنجليزية، وآخ

A A

سألني إعلامي صديق عبر موقع التواصل الاجتماعي «فيس بوك» عمّا إذا كان لديّ تفسير معقول لما يشهده العالم من ثورات، وتحوّلات، وكنتُ قد تلقيتُ نفس السؤال من رئيس تحرير مطبوعة تصدر باللغة الإنجليزية، وآخر يترأس صحيفة خليجية، تكرار السؤال ذاته عكس حالة من الحيرة حتى لدى العاملين في مجال الإعلام ، ورغبة في محاولة فهم ما حدث ويحدث منذ ثورة محمد بوعزيزي في تونس، وحتى ثورة مارك دوجان في لندن. هل ثمة فيروس ينشر الثورة في أجواء الدنيا؟! هل هي تقلبات حركة الكواكب والنجوم وانعكاساتها على مزاج أهل الأرض؟! أم أن ثمة سببًا آخر لا نراه بسهولة لفرط قربه منا؟!
لا يمكن بالطبع البحث لدى نوستر آداموس (أشهر العرافين في التاريخ) عن معنى ما حدث ويحدث، ولا عن وجهته المقبلة، وإن كنت لا أستبعد أن يكون هناك ثمة مَن يفتش في مكان ما من هذا الكوكب عن مستقبله في اللحظة الراهنة في بقايا فنجان قهوة، أو لدى إحدى ضاربات الودع، فوجود مثل هؤلاء الباحثين عن المستقبل في الفنجان، هو أحد أسباب ما تشهده مناطق واسعة من الأرض من موجات غضب، وحركات احتجاج.
لكن الممكن الوحيد لمحاولة فهم ما يحدث، هو رصد أبرز القواسم المشتركة بين مختلف تظاهرات الاحتجاج، سواء من حيث آلية حدوثها، ثم سياقاتها، ثم مآلاتها.. ومحاولة الخروج بعد ذلك إن أمكن ببعض النتائج.
لدينا ثورات وحركات احتجاجية بدأت في تونس قبل أيام من بداية العام الجديد 2011م، وانتشرت بعدها كالنار في الهشيم لتعصف بالنظام في مصر، ومنها إلى اليمن، ثم ليبيا، ثم سوريا، ثم حركات مطلبية في المغرب، وأخرى في الأردن، وثالثة في البحرين، ورابعة في سلطنة عمان، ثم انتشرت الاحتجاجات إلى الهند، ثم إسرائيل، ثم بريطانيا، ثم سان فرانسيسكو في الولايات المتحدة، وبالطبع فثمة مرشحون جدد في أوروبا مثل اليونان والبرتغال، وربما فرنسا وإيطاليا.
أبرز القواسم المشتركة بين أغلب تلك الثورات أو الحركات الاحتجاجية والمطلبية هو:
أولاً: أن طرفيها المباشرين في أغلب الأحوال هما: الشرطة والمحتجون.
ثانيًا: وجود قتيل، أو ضحية «مدني» سقط على يد الشرطة، أو بسببها.
ثالثًا: اندلاع موجات غضب ضد الشرطة؛ بسبب أسلوبها في القمع الذي نجم عنه سقوط الضحية، ولاحظوا معي ما حدث في مصر أولاً، حيث كانت الشرارة الأولى منتصف العام 2010 بسقوط الشاب خالد سعيد في الاسكندرية، تحت وطأة عنف مفرط من قِبل عناصر تنتمي للشرطة، وفي تونس حيث أحرق الشاب محمد البوعزيزي نفسه في بلدة سيدي بوزيد الفقيرة، إثر صفعة مهينة من إحدى الشرطيات، وفي لندن حيث فجّر سقوط الشاب الأسود مارك دوجان برصاص الشرطة موجات عنف غاضبة اجتاحت عدة مدن بريطانية، وفي سان فرانسيسكو بالولايات المتحدة، حيث فجّر سقوط تشارلز بلير هيل برصاص الشرطة موجة احتجاجات عاصفة، وفي الهند حيث أدى اعتقال الناشط الحقوق آنا هازاري المناهض للفساد إلى اندلاع موجات احتجاجات واسعة. أمّا في سوريا، وبرغم سقوط أكثر من ألفي قتيل على يد «الشبيحة»، وعناصر الجيش، فإن مقتل الطفل حمزة الخطيب (12 عامًَا) والتمثيل بجثته، قد جعل منه رمزًا لدعاة إسقاط النظام في سوريا.
رابعًا: أن كل تلك الأحداث قد وقعت على مدى ثمانية أشهر فقط منذ نهاية العام 2010 وحتى الآن.
خامسًا: أن كل تلك الأحداث قد تتابعت بعد ما اصطلح العالم على تسميته بـ»الأزمة المالية العالمية» أواخر عام 2008 إبان انهيار بنك ليمان براذرز في الولايات المتحدة، وما عرف بأزمة الرهن العقاري.. بكل توابعها وتداعياتها، مع الأخذ في الاعتبار أن التوابع ما تزال قائمة، وأن التداعيات ما تزال مستمرة، وأن درجة حصانة الدول تجاه مثل تلك الأزمة تتفاوت بالطبع، بحسب ملاءتها المالية من جهة، وبحسب متانة وسلامة نظامها السياسي من جهة أخرى.
سادسًا: أن بعض ما حدث ويحدث قد يكون بين الآثار غير المباشرة للأزمة المالية العالمية، التي أظن أنها مازالت ممتدة، وأن آثارها الاجتماعية والسياسية سوف تتواصل ربما على نحو دراماتيكي، فالدول تتأثر بتلك الأزمات بحسب درجة اندماجها في حركة الاقتصاد العالمي، وكلما زاد الاندماج زادت سرعة التأثر، ولهذا فقد عجبتُ من بعض مسؤولين في بعض دول العالم الثالث سارعوا عقب اندلاع الأزمة بالولايات المتحدة قبل ثلاثة أعوام، مؤكدين: «اقتصادنا متين، ولن يتأثر بما يحدث في أمريكا»!! وبالطبع هم صادقون في أن اقتصادهم لن يتأثر في التو بما يحدث في العالم، لأن درجة اندماجهم في حركة الاقتصاد العالمي ما تزال محدودةً، لكنهم بالطبع ليسوا صادقين تمامًا فيما يتعلق بـ»متانة» الاقتصاد في بلادهم، والدليل هو ما شاهدناه في تونس، ومصر، وغيرهما من ثورات، وحركات احتجاجية ساهمت توابع الأزمة المالية العالمية في دفعها بشكل كبير.
سابعًا: أن توابع الأزمة المالية العالمية، غذّت عوامل مطلبية، واحتجاجات اجتماعية، في مناطق مختلفة بالعالم، وانتهت بثورات سياسية أدرك القائمون عليها أن ثمة صلة لا يمكن تجاهلها بين تراجع مناعة الاقتصاد، ثم تردي الأوضاع الاجتماعية، وبين سلامة الأداء السياسي، ولعل هذا بالضبط ما حدث مطلع الخمسينيات، وحتى نهاية الستينيات من القرن الماضي، حين كانت حركات التغيير في معظم دول العالم الثالث بما فيها مصر (يوليو 1952) تعبيرًا عن استجابات متأخرة للكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي، هذا الكساد الذي قاد بدوره إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية، وأفرز بعدها نظامًا دوليًّا جديدًا، كانت الأمم المتحدة أبرز تجلياته السياسية، وصيغة بريتون وودز أبرز تجلياته الاقتصادية.
ثامنًا: أن ما حدث ويحدث في العالم الآن من ثورات وحركات احتجاج قد يكون مخاضًا لولادة نظام دولي جديد، يعالج غياب ديمقراطية العلاقات الدولية، الذي يجسده «الفيتو» داخل مجلس الأمن الدولي، ويعيد النظر في اتفاقية «بريتون وودز» بهيكلة النظام المالي العالمي، وإنهاء هيمنة الدولار عليه.
تاسعًا: أن خارطة جديدة للمزاج العالمي -وأسجل لنفسي براءة اختراع هذا المصطلح- ربما باتت قيد الصياغة، بفعل ثورة تقنيات الاتصال، التي أتاحت تقاربًا في الأذواق، وانتشارًا أوسع للمفاهيم الحقوقية، كما ساهمت على نحو كبير في عدوى آليات الاحتجاج، عبر استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، والتي بلغ تأثيرها في الحالة المصرية ما يقرب من نسبة مائة بالمائة، فالذين خرجوا إلى شوارع مصر وميادينها مطالبين بالتغيير كانوا قرابة 18 مليونًا، أي حوالى 20% من السكان، فيما تشير تقديرات دولية إلى أن نسبة مستخدمي الإنترنت في مصر تصل الى 22% من المصريين.
خارطة المزاج العالمي الجديدة صاغتها عوامل كثيرة لا أستطيع أن أرصد من بينها، تأثيرات حركة الكواكب والنجوم، لكنني بالتأكيد أعيد ما قاله بيل كلينتون الرئيس الأمريكي الأسبق لمنافسه في الانتخابات الرئاسية مطلع التسعينيات جورج بوش الأب: «إنه الاقتصاد يا غبي».

 

للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS

تبدأ بالرمز (21) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى

88591 - Stc

635031 - Mobily

737221 - Zain

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store