Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

ليبيا ووثيقة الأزهر الشريف

لا شك عندي في أن سرعة سقوط العاصمة الليبية طرابلس الغرب بأيدي الثوار، وتهاوي نظام الزعيم الدكتاتور، كان مفاجأة سارة لكل أبناء وطننا العربي، التواق إلى أن يتخلص الشعب الليبي من كل مظاهر جنون الاستبداد

A A
لا شك عندي في أن سرعة سقوط العاصمة الليبية طرابلس الغرب بأيدي الثوار، وتهاوي نظام الزعيم الدكتاتور، كان مفاجأة سارة لكل أبناء وطننا العربي، التواق إلى أن يتخلص الشعب الليبي من كل مظاهر جنون الاستبداد التي جثمت على كاهله طوال الأربعة عقود السالفة التي حكم فيها ملك ملوك إفريقيا الزعيم معمر القذافي، وفي المقابل أتصور أن أكثر من سيشعر بالحسرة على حدوث ذلك السقوط السريع، هم سماسرة الحروب الذين عشَّموا أنفسهم تحصيل فاتورة إضافية باهظة، عبر مختلف العمليات القتالية الشرسة، التي كان سيواجههم بها النظام على تخوم العاصمة، ودفاعا عن أبراج باب العزيزية، على أن آمالهم قد خابت، وتمت السيطرة بشكل سهل وسلس على كثير من أحياء العاصمة، لتدخل ليبيا مرحلة جديدة من الحياة السياسية بشكل مختلف عما حدث في تونس ومصر من قبل، ذلك أن العمود الفقري للدولتين السالفتين وهو الجيش ظل متماسكا طوال فترات الاحتجاج والتظاهرات الثورية، وكان له الدور الأكبر في تسهيل إزاحة النظامين الحاكمين، والإشراف على تأسيس ملامح الدولة الجديدة في كلا البلدين، أما في ليبيا والحال كذلك في اليمن، فالوضع مختلف تمامًا، حيث لا يُمثل الجيش قوة محايدة، كما ونتيجة لانقسام فصائله العسكرية بين الثوار والسلطة الحاكمة، فقد افتقد القدرة على الحسم أسوة بتونس ومصر، ناهيك عن وضوح قوة المُكوِّن القبلي في ليبيا واليمن من الناحية العسكرية، وبروز عديد من الشخصيات القبلية كزعامات سياسية لها مطالبها الخاصة، وظهور العديد من شيوخ الحركات الإسلامية الجهادية، المنطلقين في توجهاتهم من قناعات عقائدية يصعب التفاهم معها أو التحكم بها، وهو ما فرض على رئيس المجلس الوطني الانتقالي السيد مصطفى عبدالجليل أن يعلن تهديده بالاستقالة من أعمال المجلس فورا في حال لم تنضبط تلك الحركات الإسلامية بآليات وقواعد دولة القانون والمؤسسات، التي بشر بها ودعا إلى تحقيقها في أول مؤتمر صحافي بعد السيطرة شبه الكاملة على العاصمة طرابلس؛ وواقع الحال فقد كان السيد عبدالجليل شفافًا مُنصفًا لنفسه ولأهله وأبناء مجتمعه حين وضع نفسه أولًا قيد المُحاسبة، مُتمثلًا القيم النبوية في مختلف أحاديثه للإعلام، حيث شدَّد على أهمية أن يستشعر الليبيون قيم التسامح والعفو من أجل بناء وطن كريم عادل لا بغضاء فيه ولا شحناء، وطن يسعى الجميع لإقامة العدل فيه، وتحقيق الحرية والمساواة، دون مِنـَّة من أحد على أحد، ودون أن يستأثر فريق بالأمر على الآخر، فالكل فيه سواء في الحقوق والواجبات. ما أجمل هذا المنطق وما أروعه، والأجمل منه حين تتمكن شعوبنا العربية من تحقيق جُلِّ ملامحه في مستقبلها المنظور بوعي وإدراك ومنهجية علمية، وهو ما تبدَّى لي عمليًا حين قرأت وثيقة الأزهر، التي عكف على إخراج هيكلها بحُلـَّتها الزاهية، كوكبة من علماء ومثقفي مصر العظيمة برجالها وأدبائها ومفكريها، فجاءت مُحكمَة البيان، مُحدَّدَة الأهداف، واضحة المعاني، بحيث يسهل فهمها وتطبيقها في حال وُجِدَت الرغبة إلى ذلك سبيلًا، وفي تصوري فلم يعد في العمر أكثر مما مضى، وليس سهلا علينا أن يصعدَ الناس أجمعين إلى مراتب المجد والحضارة، ونبقى نحن نغترف من حُلـَلِ الجهل والبداوة، لاسيما وأننا أمة اقرأ التي حَباها الله بالإسلام، وجعلها خير الأمم. لقد اهتمت وثيقة الأزهر بـ"تحديد المبادئ الحاكمة لفهم علاقة الإسلام بالدولة في المرحلة الدقيقة الراهنة، وذلك في إطار إستراتيجية توافقية، ترسم شكل الدولة العصرية المنشودة ونظام الحكم فيها، وتدفع بالأمة في طريق الانطلاق نحو التقدم الحضاري، بما يُحقق عملية التحول الديمقراطي ويضمن العدالة الاجتماعية، ويكفل دخول عصر إنتاج المعرفة والعلم وتوفير الرخاء والسلم".. تبقى الإشارة إلى أن الوثيقة بمبادئها الأحد عشر، التي نقشت حروفها تلك الكوكبة العلمية من أجل النهوض بمصر، تستحق أن تكون -مع استثناء البندين الخاصين بمؤسسة الأزهر- وثيقة جامعة لعديد من أقطارنا العربية، للخروج من أزمتها السياسية والحضارية المعاشة، وتصلح أن تكون بمثابة الأساس التي يبني عليها إخواننا في ليبيا على وجه خاص أركان حكمهم المنظور في قابل الأيام. فأرجو أن يكون ذلك، وأتمنى ألا يغرق أهلنا في ليبيا الأبية في سفسطات فكرية وعقائدية وسياسية لا أساس لها.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store