Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

صرخة معاق

إنها لحظة صعبة عندما يمسك الإنسان بقلمه ليُعبِّر عما يدور بداخله، عند ذلك تذرف العيون دمعاً وترتعد الأيدي، فلا يدري من أين يبدأ ولا أين ينتهي..

A A

إنها لحظة صعبة عندما يمسك الإنسان بقلمه ليُعبِّر عما يدور بداخله، عند ذلك تذرف العيون دمعاً وترتعد الأيدي، فلا يدري من أين يبدأ ولا أين ينتهي.. هذا ما انتابني عندما أردت أن أصرخ هذه الصرخة المكتومة، عسى أن تكون هناك آذان صاغية.
فلقد قدر الله لي أن أُولد معاقاً، لا أستطيع أن أتكلم أو أُعبّر عما يدور بداخلي، ولا أستطيع أن أتحرك أو أشارك غيري من الأطفال في اللعب واللهو، وكذلك أن اعتمد على نفسي، وآلمني كثيراً الحزن الذي كانت عليه أسرتي بسبب إعاقتي، فلقد حرمتهم كثيراً من الخروج والتمتع بأوقاتهم كغيرهم من الأسر، وهذا قدر الله سبحانه وتعالى، وقاموا على خدمتي على قدر استطاعتهم، ولم يُقصّروا معي حتى انقطعت بهم السبل وضاقت بهم ذرعاً وصرت عبئاً ثقيلاً عليهم.
وضعوني بما يُسمّى بمراكز الإيواء والتأهيل للشؤون الاجتماعية، ويا لها من مفاجأة سعيدة لي، فلقد أحسست وكأنهم أتوا بي إلى فندق خمس نجوم، وحولي كثير ممن هم في مثل إعاقتي، والكل تتوفر له الحياة اليومية الهادئة من أسرّة مفروشة بأفضل الفرش، والطعام والشراب من ألذ ما تشتهي الأنفس. ولكن هذا كله لم يكن يعني لي شيئاً، فأنا أريد أن أحيا حياة سعيدة، أعتمد فيها على نفسي في الحركة والنشاطات اليومية المختلفة، وكذلك أُعبِّر عما بداخلي، وعندما نظرت حولي وجدت الكل ينظر بعينه ولا يستطيع أن يتكلم، فكم تمنينا أن نتحدث مع بعضنا كغيرنا من الناس، وأردت أن أصرخ فلم أستطع، وأردت أن أتكلم فلم يتحرك لساني. وعندما رفق بي الغير قالوا: هناك علاج بالتخاطب، فاستبشرت خيراً، ولكن وجدت نفسي في ضياع مع الكم الهائل من الحالات التي تريد أن تتحدث مثلي، ولا يوجد غير أخصائية تخاطب واحدة، فلا أتلقى غير جلسة واحدة في الأسبوع وربما في الأسبوعين.. وإلى الله المشتكى.
وعندما نظرنا حولنا وأردنا أن نتحرك ونشارك غيرنا في المرح، ونلعب كما يلعب الأطفال الأصحاء من حولنا، فإذا نحن لا نستطيع أن نُحرّك قدماً أو يداً، فقالوا لنا: هناك العلاج الطبيعي فاستبشرت خيراً.. وكانت المفاجأة أن لكل أخصائي ما يزيد عن الأربعين حالة، فإن أمسك قدم هذا، لم يستطع أن يحرك يد هذا، وإن أجلس هذا لم يستطع أن يوقف هذا، فوضعونا على الأسرّة، وراحوا يعالجون آخرين حتى يأتي دورنا، ولكنه لم يأت إلى أن ينتهي وقت الدوام، فراحوا يرقبوننا بأعينهم وكأن اليأس أصابهم كما أصابنا.. والى الله المشتكى.
أردنا أن نخرج من هذا السجن الكبير الذي وضعونا فيه، لنرى ماذا يدور من حولنا بنعمة النظر التي منَّ الله بها علينا، فإذا من حولنا منشغلون عنا.. والى الله المشتكى.. فمن لنا نحن الضعفاء الذي أوصى بنا الرسول خيراً، فنحن في اليُتم أشد يتماً، وفي الفقر أشد فقراً، وفي الضعف أشد ضعفاً، ومن المساكين أشد مسكنة.
هذه صرخة نُعبِّر بها عما يجيش في صدورنا، لعلنا نجد من المسؤولين في الجهات المعنية من يقف بجانبنا أو يرحم ضعفنا، أو يعمل على توفير الكوادر اللازمة للنهوض بهذه الخدمات الجليلة، وإن لم يكن فليخلوا سبيلنا وسط دفء الأحبة ورحمة الأسرة بنا، حتى نلاقي ربنا.. وإلى الله المشتكى.
فإلى إخواننا العاملين بمراكز التأهيل نقول: لقد فقدنا القدرة على الكلام، فلتكونوا ألسنتنا التي نتكلم بها. ولقد ضعفت أبداننا، فلتكونوا أيدينا في الخير والعطاء وأقدامنا التي نمشي بها، واعلموا أن الأجر كبير، فلقد قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين وأشار بالسبابة والوسطى).. فما بالكم بنا..؟ وإلى الله المشتكى.
هذه الكلمات جاءت على لسان مُعاق رغم أنه ليس مُعاقاً، لكنها عبّرت بالفعل عن صرخة معاق.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store