Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

الدَّرس الغائب..؟!

الدَّرس الغائب..؟!

في دراسة حول أسس الوحدة الفكريّة عند سعيد النّورسي قام بها للدكتور عبدالكريم عكيوي، استوقفتني بعض العبارات الفكريّة الدّالة على عمق التّجربة وتشخيص الواقع، ومن ذلك (جعل الاختلاف في النّظر والاجتهاد

A A

في دراسة حول أسس الوحدة الفكريّة عند سعيد النّورسي قام بها للدكتور عبدالكريم عكيوي، استوقفتني بعض العبارات الفكريّة الدّالة على عمق التّجربة وتشخيص الواقع، ومن ذلك (جعل الاختلاف في النّظر والاجتهاد سببًا لإظهار الحقّ وازدهار المعرفة وثراء الفكر الإسلامي)؛ ذلك أنَّ جمْع المجتهدين على رأي واحد فيما ليس موضعا للقطع لن يتأتّى أبدًا، ولا يظنّ ذلك إلاّ من جهل خصائص الشّريعة وموارد أدلتها، وجهل حقيقة الحياة وطبائع البشر!
ولكن ما هو الواجب حيال ذلك؟
الواجب على أهل الحق - كما تقول الدّراسة- أن يجعلوا اختلافهم اختلافًا محمودًا وهو الذي سماه سعيد النورسي الاختلاف الإيجابي البنّاء المثبت، وذلك بأن يسعى كلّ واحد لترويج مسلكه وإظهار صحّة وجهته وصواب نظرته؛ لكن دون أن يسعى إلى هدم مسالك المخالفين له، ولا الطّعن في نظرهم؛ لأنَّهم وإنْ خالفوه في النّظر والاجتهاد فلعلّهم نظروا إلى ما لم ينظر إليه، ونظر هو إلى ما لم ينظروا إليه، فليكن إذًا غرض كلّ واحدٍ هو إكمال النّقص.
دعوا الكلمات السّابقة في باحة التّأمل؛ واقرؤوا معي هذه الأسطر التّالية للأستاذ سعيد النورسي، حيث يقول:» إنّ تصادم الآراء ومناقشة الأفكار لأجل الحقّ وفي سبيل الوصول إلى الحقيقة إنّما يكون عند اختلاف الوسائل مع الاتفاق في الأسس والغايات، فهذا النّوع من الاختلاف يستطيع أن يقدِّم خدمة جليلة في الكشف عن الحقيقة وإظهار كلّ زاوية من زواياها بأجلى صور الوضوح..».
وماذا نقول نحن؛ وقد أصبنا بقومٍ تقوم قيامتهم حال المناقشة والحوار؛ لأجل أغراض شخصيّة، قوامها التّسلط والاستعلاء وإشباع شهوات نفوس فرعونيّة وما يتبعها من نيلٍ للشّهرة وحبٍّ للظّهور..!!
ولكم أن تتأملوا هذه الدّعوة الجميلة التي يبرزها النّورسي بالقول: «عندما تعلم أنّك على حقّ في سلوكك وأفكارك يجوز لك أن تقول: مسلكي حق أو هو أفضل؛ ولكن لا يجوز لك أن تقول: إنّ الحقّ هو مسلكي أنا فحسب، لأنّ نظرك السّاخط وفكرك الكليل لن يكون محكًّا ولا حكمًا يقضي على بطلان المسالك الأخرى».
وقبل ختم هذه الأسطر أدعكم مع هذا المثال الذي يسطّره النورسي، كعدم موافقته لبعضهم في ما ذهبوا إليه من أن السّير في بعض أمور الحياة على النّمط الغربي لا حرج فيه ولو كان مخالفة صريحة للشّرع وذلك تمسكا بقاعدة (الضرورات تبيح المحظورات)؛ قال وهو يحكي ذلك: «أرسل إلي قائد عام عددًا من الضّباط وحتّى بعض العلماء الأئمة من أجل أن يعيدوني شيئًا إلى الأمور الدَّنيويّة، فقالوا نحن الآن مضطرون أي أنّنا مضطرون في تقليد بعض الأصول الأوربيّة وموجبات المدنيّة حسب القاعدة المعروفة- أن الضّرورات تبيح المحظورات-، قلت لهم: إنّكم منخدعون تمامًا، لأنّ الضرورة النّابعة من سوء الاختيار لا تبيح المحظورات فلا يجعل الحرام بمثابة الحلال… فمثلًا إذا سكر شخص بسوء اختياره بشربه الحرام ثمّ اقترف جريمة وهو سكران فإنّ الحكم يجري عليه ولا يكون بريئًا بل يعاقب… وهكذا قلت للقوّاد والأئمة أي الأمور تعدّ ضروريّة ممّا سوى الأكل والعيش، فالأعمال النّابعة من سوء الاختيار والميول غير المشروعة لا تكون عذرًا كجعل الحرام حلال… وحتّى القانون الإنساني قد أخذ هذه الأمور بنظر الاعتبار وميّز بين الضّرورة القاطعة غير الدّاخلة ضمن إطار الاختيار والأحكام النّاشئة من سوء الاختيار. إلاّ أنّ القانون الإلهي قد فرّق بينهما بشكل أساسي وثابت راسخ ومحكم».

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store