Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

مصر عاصمة المخاض العربي

ربما أتاحت حوادث الأعوام الثلاثة الأخيرة لغير المعنيين بالسياسة فرصة الاعتراف بأنهم لم يكونوا على صواب، أو على الأقل الإقرار بأن التعرف على ما يدور حولهم في المنطقة كان من شأنه تعزيز رؤيتهم لمستقبل أط

A A
ربما أتاحت حوادث الأعوام الثلاثة الأخيرة لغير المعنيين بالسياسة فرصة الاعتراف بأنهم لم يكونوا على صواب، أو على الأقل الإقرار بأن التعرف على ما يدور حولهم في المنطقة كان من شأنه تعزيز رؤيتهم لمستقبل أطفالهم، أو حتى مساعدتهم على تجنب بعض الخسائر سواء في الاقتصاد أو حتى في فرص معيشة أفضل.
مشاهد النساء البسيطات والعاملات الزراعيات في فيلم أعدته المخرجة الشابة ساندرا نشأت وهن يتعهدن بالدفاع عن التعديلات الدستورية الأخيرة في مصر، تقطع بأن سنوات الربيع العجاف منذ مطلع العام 2011 ربما تطرح زهوراً أو قمحاً في نهاية المطاف، فالثورات لا تغير شكل الجغرافيا لكنها تنتج مفاهيم جديدة وتطرح بشراً يؤمنون بحقهم في الحياة.
وفيما تنشغل مصر بأهم استفتاء ربما في تاريخها الحديث كله حول تعديلات دستورية من شأن تصويت الناخبين لصالحها ، أن يضع البلاد على أعتاب تاريخ جديد تماماً، يظل المشهد السياسي المصري مخاضاً طويلاً، بدأ قبل 25 يناير بسنوات، منذ عبر المصريون عن رغبتهم في شراكة حقيقية في الحكم، وفي أن يكون لديهم نظام سياسي يعبر بصدق عنهم ويتفهم احتياجاتهم ويرتب أولوياته وفقا لمطالبهم، وليس وفقا لمصالح فئة حاكمة أو لحسابات تأبيد السلطة أو توريثها.
هذا المخاض الطويل كتبت عنه قبل 25 يناير بسنوات، وأنا أرصد ما اعتبرته عملية بحث مصرية عن «الدولة الحديثة» التي لم تقم في أي وقت في معظم إقليم الشرق الأوسط ، لكن المخاض بدأ في مصر، والولادة جرت في تونس، فتمخضت مصر وولدت تونس، وبدا غير مفهوم لبعض الوقت كيف يكون المخاض مصريا والولادة تونسية، إلى أن كشفت وقائع التاريخ طرفاً يسيراً مما جرى ويجري، فمحفزات «الطلق» في مصر لم تؤدِ الى ولادة مبكرة، و ان كانت ثورة البوعزيزي في تونس أكبر محفزات الولادة المصرية.
وكلنا يعرف بعد هذا كيف جرت الأمور في البلدين ثم في ليبيا واليمن وسوريا، وكأنما أريد نقل المنطقة من حالة «سريالية» كانت عليها، يختلط فيها ما هو واقعي بما هو فوق الواقع، مع هيمنة ظاهرة لمنهج باطني يصعب استقراؤه أو توقع قراراته، إلى حالة «تفكيكية» على طريقة «دريدا» تستهدف تفكيك الخطاب السياسي الإقليمي وإعادة صياغته خارج إطار أي منطق للإقليم وشعوبه.
عموماً، فما جرى ويجري في مصر الآن بشأن خارطة للمستقبل، بدأت بدستور توافقي عكس مصالح وتطلعات الغالبية العظمى من الشعب المصري، يمكن النظر اليه باعتباره عملية «تفكيك التفكيك» أي «إجهاض» المخطط الذي استهدف تفكيك المنطقة وفق حسابات وتصورات ومصالح قوى عظمى وأخرى إقليمية، امتلكت مشروعا لا يمكن ان يقوم سوى على أنقاض دول وحكومات في المنطقة. :» إذ يتجاوز سريالية ما قبل الربيع العربي وتفكيكية ما بعده»
بالتصويت على الدستور في مصر يقطع المصريون خطوات هائلة باتجاه استعادة دولتهم وبناء مؤسساتها وفق مبادىء عامة بعضها كان قائماً في دساتير سابقة دون تفعيل ، وبعضها يجري اقراره لأول مرة في تاريخ الحياة الدستورية المصرية، ويتعامل بصفة خاصة مع حقوق المرأة والأقليات، وكذلك يضع حدوداً دنيا للإنفاق على الخدمات الأساسية كالرعاية الصحية والبحث العلمي، ويكفل حماية للطبقات المهمشة، باختصار هو دستور يعترف بالتنوع ويقر بحق الاختلاف، ويضع خيارات وبدائل سلمية لعزل رئيس الدولة عبر القنوات الدستورية، دون حاجة الى ثورات شعبية أو إجراءات استثنائية.
بالدستور الجديد في مصر، لن تتغير مصر وحدها ، إذ قد تتغير طبيعة المخاض الإقليمي كله أو تتأثر على الأقل ، بما يتيح إمكانية صيانة مقدرات الشعوب العربية في دول «التحولات العنيفة» مثل ليبيا وسوريا والى حد ما اليمن، اذ يطرح المخاض المصري السلمي نموذجاً للتغيير عبر قنوات الحوار ومن خلال مؤسسات مجتمعية معتبرة، كما أنه يكرس انحياز غالبية المصريين لمفهوم الدولة «المدنية» المعنية بكفاءة الأداء بشكل أساسي .
مصر الآن بتجربتها في التحول السلمي باتجاه بناء مشروع الدولة الحديثة، يمكن وصفها بأنها باتت «عاصمة المخاض العربي»، التي يترقب أشقاؤها العرب ولادة طبيعية سهلة، ترسي النموذج لمن أراد الخروج الآمن من شعوب دول «التحولات العنيفة» بالمنطقة مثل ليبيا وسوريا.
في السبعينيات من القرن الماضي وفي أعقاب حرب اكتوبر، سادت مقولة صحيحة بأنه لا حرب بغير مصر ولا سلام بغير سوريا، ومازالت الأيام تبرهن على سلامة تلك المقولة، واليوم في خضم تحولات عاصفة بالمنطقة ودولها، يبدو جلياً أن ثمة من يعتقد -بحق- أنه إذا سلمت مصر سلم العرب، وإذا تشظت سوريا تشظى العرب.. حافظوا على سلامة مصر ووحدة سوريا.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store