Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

عن الفارس والحرافيش

في 25 يناير قبل ثلاثة أعوام حلم المصريون بالتغيير، لكنهم استيقظوا وقد داهمتهم الكوابيس.. حلموا بالدولة «الحديثة».. دولة المؤسسات.. دولة القانون..

A A
في 25 يناير قبل ثلاثة أعوام حلم المصريون بالتغيير، لكنهم استيقظوا وقد داهمتهم الكوابيس.. حلموا بالدولة «الحديثة».. دولة المؤسسات.. دولة القانون.. دولة كل المواطنين، لكنهم استيقظوا على اللا دولة، ووجد شعب أقدم دولة على وجه الأرض، عبر التاريخ الإنساني كله، نفسه فجأة بلا دولة، كان الفرعون الأول، قد وضع لبنتها الأولى، متعهدًا لمواطنيه بتنظيم حقوق استغلال مياه نهر النيل، وبضمان الأمن لكل منهم دون استثناء، فإذا بأول رئيس «مدني» «منتخب»، يُفرِّط في مياه النهر، وينظم في قصر رئاسته أعجب اجتماعات الأمن القومي على الإطلاق، تاركًا لمستشارته الخاصة (باكينام الشرقاوي) أمر مفاجأة المشاركين في الاجتماع «السري» الذي يناقش قدس أقداس الأمن القومي المصري (حقوق مصر في مياه النيل) بأن الاجتماع لم يكن سريًا ولا يحزنون، وبأن الدنيا بأسرها قد تابعته ببث حي عبر الفضائيات.
وإذا بأول رئيس «مدني» «منتخب» يُوزِّع أراضي البلاد ذات اليمين وذات اليسار، فيخوض في مشاورات سرية لإنشاء وطن فلسطيني بديل فوق أرض سيناء المصرية، يعفي إسرائيل من الانسحاب من أراضي الضفة والقدس، ويُقرّبها كثيرًا من حلم الدولة «اليهودية» الخالصة.
أما أم المفاجآت فقد تجلّت حين تبيّن لكافة المصريين أن الرئيس «المدني» ليس مدنيًا ولا يحزنون، فهو مازال من داخل قصر الحكم يعمل لحساب جماعة دينية لا مدنية، تتبنى فكرًا لا يعترف لا بالوطنية ولا بالدولة، ثم كانت المفاجأة الأخرى بأن أول رئيس منتخب «ليس منتخبًا كما كان الناس يظنّون، بينما يجري تداول أوراق قضية تشير إلى عمليات تلاعب منهجية قبل وأثناء وبعد التصويت في الانتخابات الرئاسية، التي منحته رغم ذلك هامش تفوّق ضئيل للغاية لا يتجاوز الواحد بالمائة من الأصوات.
تراجع حلم الدولة المدنية الحديثة، وانكشف الأمن القومي المصري كما لم يحدث في تاريخه المكتوب كله، وبدا حجم الأخطار والتهديدات أفدح وأكبر من أن يحتمل انتظارًا لمرور أربع سنوات رئاسية كان الوطن بعدها سيصبح جزءًا من الماضي، وكان المواطنون خلالها سيتحوّلون إلى رعايا، يعملون في بلاط «الأهل والعشيرة».
كنت بين الحالمين، وكنت بين من استيقظوا على الكابوس، وكما راهنت على سقوط مبارك، لم يتزعزع يقيني لحظة بسقوط تجربة أول رئيس لا مدني ولا منتخب، وقد ربحت الرهان في الحالين، لكنني في اللحظة الراهنة لا أستطيع استشعار الرضا، بعدما تراجعت أحلامي كثيرا.
كنت أحلم بدولة مدنية حديثة، يبدو الدستور المصري الجديد قريبًا جدًا منها، لكن الواقع السياسي المصري يبدو أبعد كثيرًا عنها، فالمخاوف الأمنية التي تتصاعد بفعل عصابات الإرهاب، تدفع الناس دفعًا لطلب الأمن قبل الرغيف وقبل الحرية، وقبل الحقوق الطبيعية الأخرى، حتى يبدو الأمر وكأننا بصدد عملية أرجو ألا يكون عنوانها هو: سأوفر لك من الأمن بمقدار ما تتخلى عن حريتك، أو تتنازل عن حقوقك الأخرى.
لا يوجد طرف سياسي في اللحظة الراهنة يطرح هذه المعادلة، ولا يوجد من يجرؤ على طرحها على هذا النحو، لكن غياب الطمأنينة والاستقرار يجعل البسطاء من الناس، وهم الكثرة الغالبة، مهيأون لها، أو حتى مستعدون للذهاب إليها، ويستدعي المشهد المصري الراهن أمام ناظري مشهدًا تكرّر في «ملحمة الحرافيش»، رائعة الأديب المصري العملاق نجيب محفوظ، حين يلوذ الحرافيش بالفتوة الذي خلّصهم من ظلم فتوة سابق، مؤكدًا لهم: «من النهاردة مفيش إتاوات» بينما يصيحون في رضا «اسم الله عليه.. اسم الله عليه».. لكن الزمن يدور ويصبح المخلص مستبدًا يفرض الإتاوات ويرتكب أتباعه المظالم، فيما يُفتِّش الحرافيش مجددًا عن مُخلِّص آخر.. وهكذا دون نهاية للظلم رغم الخلاص المتكرر من الظالم.
خلاصة «الحرافيش» أن البحث عن «مخلّص» ليس حلًا لمعضلة تتكرر مع كل من اضطلعوا بدور المخلص عبر التاريخ، فالمخلص الحقيقي هو «المؤسسة» لا «الفرد» والخلاص الحقيقي يقتضي عملًا جماعيًا تحترم فيه إرادات وخيارات الجميع.
أمام مصر والمصريين فرصة حقيقية للخلاص الحقيقي، وبناء دولة مؤسسات حقيقية لا تعتمد على إخلاص الفرد الزعيم مهما تفانى في إبداء إخلاصه، وإنما تعتمد على مؤسساتية تعمل وفق آلية ترتضيها الأغلبية، ويسود فيها الدستور والقانون دون تمييز بين الجميع، لكن هذه المؤسساتية قد لا يجهضها عمل فرد يتعطش للسلطة بقدر ما يجهضها غالبية من البسطاء تُفتِّش عن زعيم يحمل عنها كل همّ، ويُوفِّر لها كل شيء، وهذا النموذج من الزعماء ربما لم يعرفه التاريخ الإنساني كله، إذ لا وجود له سوى في الأساطير والحكاوى الشعبية.
مهمة الفارس القادم في مصر إن أراد أن يدخل التاريخ هي أن ينقل مصر من عصر الزعيم «الفرد» إلى عصر «المؤسسة».
في مسرحية «الزعيم» للمبدع «عادل إمام»، ينشد الشعب في ختام المسرحية، أغنية أظنها تحمل كلمات اللحظة، يقول فيها: «الشعب اللي في إيده مصيره.. هو الفارس هو الحارس.. والأحلام موش عاوزة فوارس.. الأحلام بالناس تتحقق».
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store