Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

الحنين إلى الماضي لا يصنع المستقبل

أستطيع أن أتفهم حماس البسطاء من المصريين لأول زيارة خارجية يقوم بها المشير عبدالفتاح السيسي وزير الدفاع المصري إلى روسيا، لكنني لا أستطيع أن أفهم أو حتى أن أتفهم، ما يُردّده بعض من يجري تصنيفهم منذ ين

A A
أستطيع أن أتفهم حماس البسطاء من المصريين لأول زيارة خارجية يقوم بها المشير عبدالفتاح السيسي وزير الدفاع المصري إلى روسيا، لكنني لا أستطيع أن أفهم أو حتى أن أتفهم، ما يُردّده بعض من يجري تصنيفهم منذ يناير 2011 بأنهم «خبراء إستراتيجيون» أو في الحد الأدنى «سياسيون»، بشأن الزيارة ذاتها.
البسطاء يرون المشهد في سياق استدعاء الحنين إلى الماضي، حين رد جمال عبدالناصر، الذي يحملون صوره وصور السيسي جنبا إلى جنب، على رفض الولايات المتحدة مطلع الخمسينيات تسليح الجيش المصري، بصفقة أسلحة روسية في عام 1955 قيل وقتها أنها «تشيكية»، وهم يستدعون بالحنين أيضًا، انحياز ناصر لآبائهم، ويمنون النفس بحاكم ينحاز مجددًا لبسطاء مصر وفقرائها.
لكن النوستالجيا أو الحنين إلى الماضي لا يمكن أن تصنع مستقبلا بحال، ولا ينبغي لها ذلك، فالظرف قد تغيّر، والقيادات قد تبدّلت، وإمكانات الدول ومواقعها (حتى الجغرافية منها) لم تعد كما كانت.
أما من يجري تصنيفهم وبإلحاح على عيون المصريين وآذانهم، بوصفهم النخبة، من خبراء، ومحللين، ومفكرين، في استباحة ظاهرة لمعاني الخبرة، ومقتضيات التحليل، وموجبات التفكير، فقد أطلّوا على جمهورهم عبر فضائيات تكاثرت على نحو عشوائي، مُؤكِّدين أن ثمة تفاهمات - قد تكون سرية بين القاهرة وموسكو- لمواجهة ما وصفه أحدهم، بأنه مؤامرات يُخطِّط لها التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين وتستهدف تمكين الولايات المتحدة الأمريكية من إعادة هيكلة خارطة الشرق الأوسط الجديد طبقا لتصور صاغته- على حد قولهم- كوندليزا رايس مستشارة الأمن القومي ثم وزيرة الخارجية للرئيس الأمريكي السابق بوش الابن.
دوافع «الخبراء الإستراتيجيين» ربما تكون نبيلة، لكن أدواتهم لا يمكن أن تكون كذلك، فلا يكفي لتحريك الجماهير ورص الصفوف خلف موقف ما، أن تستثير مشاعر الخوف من المجهول لدى البسطاء، أو أن تقول لهم ليس أمامكم سوى هذا الطريق أو ذاك السبيل، فالضرورات المصرية على الأرض، تكفي وحدها لإقناع قطاع واسع من المصريين بأن الوطن يجتاز لحظات عصيبة من تاريخه، وأن الخطر المحدق بمصر ربما هو غير مسبوق على مدى تاريخها الحديث كله، حيث يختبئ العدو هذه المرة في طيات ثيابها، والأمر لا يحتاج إلى استثارة «الخوف» كأحد أهم أدوات إدارة الجموع، وبالتالي فالحديث المُكرَّر أو المُعاد عن مؤامرة هنا، وأخرى هناك، وعن خلايا نائمة وأخرى قائمة، وعن أعداء لا نراهم لكنهم يروننا، ولا ندركهم، لكنهم يستهدفوننا طوال الوقت، كل ذلك لا مبرر له، ولا حاجة إليه، فالخوف قائم والناس خائفون وهم يبحثون عن حارس، يمنحهم الشعور بالأمن، ويستعيد لوطنهم الطمأنينة.
مهمة الخوف أن يكون محفزًا لا مثبطًا، وهو ما لا يتحقق بأدوات «الخبراء الإستراتيجيين الفضائيين»، حيث تتقدّم الشائعات على المعلومات، وتُتاح لجماعة «يُحكى أن..» فرصًا للرواج والكسب لا تتهيأ لمن يتحرّون الدقة ويلتزمون بالموضوعية، ويحرصون على المصداقية.
تحت وطأة الخوف تكون عيون البسطاء مفتوحة.. مشدوهة.. لكنها لا ترى بعين الرعب سوى الأشباح.. كما تكون آذانهم مرهفة السمع لكن أغلبها يتنصّت على وقع أقدام العفاريت.. تضيع الحقائق، وتتراجع المعلومات، ويغيب بعدهما الوعي، لتنفتح خزائن الرزق أمام تجار الخوف.
سياسات الأمم ومصائرها لا يقررها «الخوف» وحده، وإنما ينبغي أن تكون الكلمة العليا المسموعة فيها هي للأمل، وإذا كان الخوف «غريزة» لا إرادية ، فالأمل «عمل» إرادي، يقتضي قدرة على صناعة الحلم، وامتلاك رؤية وخطة وعمل لإنجاز خطوات على طريق تحقيقه.
دوافع السلوك الروسي تجاه مصر هي في الأول والمنتهى مصالح إستراتيجية عليا تتطلع موسكو إلى تحقيقها عبر استعادة شراكة تاريخية مع مصر، يُدرك الروس أن شروطها قد تغيّرت، ودوافع السلوك المصري تجاه موسكو هي أيضًا مصالح إستراتيجية عليا تتطلع القاهرة إلى تحقيقها عبر استعادة شراكة تاريخية مثمرة مع روسيا، يُدرك صُنّاع السياسة في مصر أن شروطها قد تغيّرت، ويُؤكِّد دبلوماسيوها وجنرالاتها معًا، أنها ليست بديلًا لعلاقات القاهرة بواشنطن، ولا ينبغي أن تكون على حسابها.
أما محللو الفضائيات وخبراؤها «الإستراتيجيون» فمازال بعضهم يرى أن السيسي ذهب إلى روسيا ليغيظ أمريكا التي أجّلت تسليم 4 طائرات إف 16 للقاهرة.
الخبراء حول العالم أوشكوا على إنجاز خارطة «عالم مُتعدّد الأقطاب»، فيما يواصل خبراء الفضائيات عندنا، قراءة المستقبل في فنجان قهوة عتيق، تناوله جنرالات الحرب العالمية الثانية في يالطا.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store