Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

العاطفة الجهادية إلى أين؟!

العاطفة الجهادية إلى أين؟!

كل إنسان يمر بحياته على عدة محطات، فيسقي بصيرته منها، ليقوى على ما بعدها من مراحل، والموفق من وفقه الله للاستفادة من تلك المسيرة لما فيه خيرا الدنيا والآخرة، ومن تلك المسيرات قضية (الأفغان العرب)،

A A

كل إنسان يمر بحياته على عدة محطات، فيسقي بصيرته منها، ليقوى على ما بعدها من مراحل، والموفق من وفقه الله للاستفادة من تلك المسيرة لما فيه خيرا الدنيا والآخرة، ومن تلك المسيرات قضية (الأفغان العرب)، الذين خرجوا من ديارهم وأهلهم منذ ثلاثة عقود صوب جبال (الهندكوش) بنية المناصرة لإخوانهم، ولكنها صارت مصنعًا لأفكار متطرفة، وتنظيمات إرهابية، وملجأ للغلاة، حيث كهوف (تورا بورا)، وإذا أردنا أن نعرف ما يعيشه العالم الإسلامي اليوم من أفكار متشددة، وأعمال إرهابية، فلا بد للمحلل أن يرجع لتلك المرحلة التي لها الحبل السري والعمود الفقري لغالب ما نعيشه اليوم من حركات راديكالية هنا وهناك.
كان أبناء هذه البلاد كغيرها، يعيشون على فكر أصيل متوارث، مُنار بالوسطية ومَهدِي بالاعتدال، فلا يعرف التكفير ولا التفجير، ولا الموسوعات الإرهابية والعمليات الانتحارية، فجاء أولئك القوم من أفغانستان عربًا وعجمًا إلى مساجدنا وجوامعنا يدعون ويحرضون، ويجمعون القلوب قبل الأموال، ومجلات تملأ رفوف المكتبات، فتم شحن عواطف أبنائنا حتى رحلوا إلى تلك الميادين لتسيل دماؤهم الطاهرة الزكية، فبكت العيون واعتصرت القلوب، فكم من أم بكى قلبها على فراق ابنها الذي قد يكون الوحيد، وكم من أب حزن على فراق عضده الشديد، ولكن المشكلة لم تقف عند حد الخسائر، التي ذهبت تحت شعارات زائفة ودعوات خادعة، بعيدة كل البعد عن الحق والعدل والحكمة، فتلك الدماء الزكية كانت لحساب جهات لم تدفع أي ثمن حينها من أبنائها ولو قطرة من دم، فضلًا عن نقطة من عرق.
لقد صمتُ عن الكلام في هذه المسألة لأكثر من عقدين من الزمان، لأنني على يقين بأن كتابتي لبعض الحقيقة سيكون مؤذيًا للبعض، فكيف لو قلت ما في نفسي كله، لربما حصل ما لا تحمد عقباه، ولا يدفعني للكلام عن هذا الملف إلا لأنني أعرفه جيدًا وأحفظ الكثير من أسراره، وبما أنني أرى الأخطاء نفسها تتكرر من جديد، فلا يجوز لي أن أؤخر البيان عن وقت الحاجة.
إن مبدأ ذهاب أبنائنا لما يسمى بالجهاد في خارج هذه البلاد، كان ولا يزال خطأ إستراتيجيًا كبيرًا، ولكن لنبحث عن أسباب تلك الهبات هنا وهناك بدوافع لا يمكن أبدًا أن نشكك فيها، فكل من ترك وراءه أهله وحياته لا يمكن لعادل فضلًا عن عاقل أن يشكك في طيب نيته وحسن مقصده، ولكن النية لا تعني تصويب العمل، وما يأتي معها وبعدها من ويلات ومصائب، لا تلحقه بمفرده، وإنما تعود عليه وعلى أهله ومجتمعه ووطنه.
ويجب على أبناء جيلنا الجديد أن يعرفوا درس أفغانستان جيدًا، ومن رجاله الذين عايشوه وعرفوا أسراره، لنحميهم من أخطاء جديدة، وقع فيها الآلاف منذ ثلاثة عقود، ولا نزال ندفع المزيد من الأثمان البالغة، وسنستمر إن لم نضع الخطط الإستراتيجية وليس مجرد التكتيكية لتلافي تلك الآثار من ناحية، وعدم الوقوع في مثلها من ناحية أخرى.
إن الحديث عن الجهاد وأفغانستان وأخواتها حديث ذو شجون، ولكنه ذو شؤون لا بد من أن تفتح، فلم تبدأ المصائب من الحادي عشر من سبتمبر ولن تنتهي بضربة هنا وعملية هناك، ولكن العلاج الناجح لهذه الباقعة هو الذي يقوم أولًا على عمل مؤسسي، وثانيًا على خطة شاملة ممنهجة ممرحلة، وثالثًا بكشف حساب دوري واقعي بلا مزايدة ولا مجاملة يقيم، ويقوم المسيرة لإنجاح خطة عمل تعالج قضية أصبحت هي الأكبر في تاريخنا المعاصر، وذلك لتصحيح أفكار الشباب وتحصينها وترشيد حماسهم وتوجيه عاطفتهم نحو ما ينفع دينهم ودنياهم وليس ما يضر وطنهم ومواطنيهم.
وإذا كان البعض قد وقع في يوم من الأيام ضحية لتلك العواطف والحماسات غير المرشدة، فلا يجوز أن يقع أولادنا من بنين وبنات في تلك الأخطاء نفسها من جديد، التي أرى اليوم الكثير منهم يكررونها، وكأن قدرنا أن يجرب الجميع الخطأ نفسه لأجل أن يتلافاه في المستقبل، وقد يَهلك به أو يُهلِك به غيره، وليس له حينئذ من مناص، وقد رفعت الأقلام وجفت العروق.
وما أريد قوله: يكفي ما مضى من أخطاء، ويجب على جميع العقلاء المخلصين في وطني وعلى رأسهم الجهات الرسمية أن يهبوا ضد تكرار مثل هذا الملف في المستقبل، وفي الحين نفسه لا بد من هبة أكبر لمعالجة حكيمة مستدامة لذلك الملف الغابر، الذي كلما تذكرناه تذكرنا ما حمل فيه من أوجاع ومدامع، نقاسيها في حياتنا وأرضنا حتى اليوم في العالمين الحقيقي والافتراضي.
Twitter: @IssaAlghaith
IssaAlghaith@gmail.com

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store