أبومتعب.. صراع التاريخ والمستقبل

هذا الوطن الذي سكنّا قبل أن نسكنه، ووُلد فينا قبل أن نُولد فيه، له قصة عاش الزمان يرويها تاريخًا، والمستقبل يرويها حاضرًا له، وعلى أبي متعب تصارع التاريخ والمستقبل، فهذا يؤكد أنه من عبقه، وذاك يصر على أن أبا متعب وُلد لأجله، وكلاهما على حق، فمليكنا قبل كل شيء اإنسان، ولأن الإنسان هو مادة التاريخ والمستقبل، فسيبقى عبدالله بن عبدالعزيز العنوان لهما.
بعد تلك الفاجعة المؤلمة التي أصابتنا كلّنا في وفاة أبناء الأخ الصديق الدكتور إسماعيل البشري مدير جامعة الجوف -رحمهم الله جميعًا، وأموات المسلمين- والذين قضوا نحبهم في حادث سير، كان فيه للقدر كلمته، وكانت ساعة الرحيل مقدرة في حينها، رغم أن الأسباب تلهينا كثيرًا، خادم الحرمين الشريفين يجري اتِّصالاً هاتفيًّا مع البشري ليعزيه في أولاده، ليست غريبة على الملك الإنسان، العبرة هنا أن الوطن على امتداد رقعته الجغرافية، فإنه كله يكون أمام ناظري ولي الأمر؛ ليطّلع على كل صغيرة وكبيرة فيه، أبومتعب كعادته حاضر في كل حدث مهما بسط أو كبر.
في دول العالم المختلفة تأتي المشاركات في العزاء بالتمثيل والإنابة، أو بإرسال البرقيات العامة، لكن هنا الأمر مختلف، فبعد تعزية ولي العهد، وولي ولي العهد، والعديد من أصحاب السمو الأمراء المسؤولين حكوميًّا، بقي أن الأب لا بد وأن يكون هو أيضًا من المعزّين، أبو متعب يعلم جيدًا أن اتّصاله مباشرة مع البشري سيكون له أثر مخفف، ومهوّن في قلبي البشري وزوجته، وفي قلوب الأهل جميعًا.
فصل آخر من فصول كرم أبي متعب، وطيبة القلب الذي يحمله الملك الإنسان، أبو متعب يصر على مقابلة البشري شخصيًّا؛ لأنه يعلم أن حجم الفاجعة كبير، فظن في نفسه أن الاتّصال وحده لا يكفي، فطلب لقاءه وعزاءه شخصيًّّا، وذلك في المطار قبيل سفره -حفظه الله- إلى جدة، لك الله أبا متعب، هذه صفات مَن يخدم بيت الله الحرام، وضيوف الرحمن، الأب يعزّي ابنه في أبنائه، غير كلمات المواساة والتذكير بأن الموت حق، وأن الرجال تظهر حقيقتها في المواقف الصعبة، الملك الإنسان، الوالد الحنون.. أيّ كلمات، وأيّ أوصاف تفي المشهد كلّه حق التعبير، وحق من فيه.
للرحيل حكايات وقصص، عاشها سيدي أبومتعب، فهو يعلم جيدًا معناها، ومدى عميق إصاباتها، الملك الإنسان أكثر من يعلم كيف أن الكلمة والمواساة لهما ذاك الأثر المخفف، والمعين على الواقع، لكن يبقى لرأس الدولة وحاكمها والولي على أمر المسلمين في النفس أطيب الوقع، حين تأتي كلماته عبر صوته لتشد العزم، وتثلج الصدر، وتكون الكلمة الفصل، إن هذه حال الدنيا يا بشري، فكلنا راحلون يومًا، ننتظر قرار التنفيذ، فتجلّد وامضِ، فالحياة لا بد وأن تستمر حتى يأتي يوم الرحيل الجماعي، ولا يبقى عليها إلاّ مَن خلقها وحده لا شريك له.