Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

عن الرئاسة والرئيس

لأعوام طويلة لم يجرؤ النيل على تهديد المصريين بالفيضان، منذ اكتمل سد عبدالناصر العالي، وجاء افتتاح السد متزامنًا مع رحيل «الزعيم»، ليرحل رجل استبد بقلوب شعبه، ومعه استبداد نهر طالما تلاعب بقلوب المصري

A A
لأعوام طويلة لم يجرؤ النيل على تهديد المصريين بالفيضان، منذ اكتمل سد عبدالناصر العالي، وجاء افتتاح السد متزامنًا مع رحيل «الزعيم»، ليرحل رجل استبد بقلوب شعبه، ومعه استبداد نهر طالما تلاعب بقلوب المصريين وحياتهم على ضفافه عبر ملايين السنين، حتى هاموا به عشقًا فعبدوه تحت اسم «حابي» وراحوا يتغنون بخيره عليهم ويلتمسون رضاه.. هذا النهر الخالد هو في ظني مفتاح فهم الشخصية المصرية، بل هو صانع الحضارة وكاتب التاريخ على ضفاف النيل عبر آلاف السنين.
يتأهب النيل لدخول الأراضي المصرية بـ»وحدته» فيصبح نهرًا واحدًا وكان قبلها أنهارًا، ثم ينتج هذا النهر على ضفافه شعبًا واحدًا متجانسًا، فيوحد مصر نهرها حتى قبل عصر مينا موحد القطرين، الذي تعاطى مع حقائق الجغرافيا، وسعى لتكريسها بشعب واحد حول نهر واحد في وطن واحد.
كل ما فات هو أجمل ما في النيل، وأعظم إنجازات الجغرافيا على الإطلاق، أما أسوأ ما قدمه النهر للمصريين، فلم يكن فيضانه الغاضب في بعض السنوات والذي كان يجرف في طريقه قرى بأكملها، وإنما ما أنتجه النهر من نظرية للحكم في مصر تقول إن شعب النهر «الخالد» يحكمه دائمًا زعيم «خالد».. كل الزعماء «الخالدين» في صفحات التاريخ المصري الموغل في البعد، وحتى تاريخها القريب جدًّا الذي نعيشه يوما بيوم، اكتشفوا تلك الحقيقة التي لخصها المؤرخ هيرودوت في عبارة واحدة «مصر هبة النيل».
النيل يسيطر على حياة المصريين، والحكام «الخالدون» يُروّضون النيل للسيطرة عليه، فإن دانت لهم الغلبة دان لهم الشعب، وما زلت أرى وراء كل مشروعات ترويض النيل من قناطر وسدود وأهوسة وترع وقنوات عبر التاريخ المصري الطويل، حاكمًا قويًا يدرك أن النيل هو مفتاح الحكم وبوابة الخلود وأداة السيطرة السياسية «المطلقة» في معظم الأحيان.
مقولة هيرودوت القديمة الراسخة في وجدان المصريين، بدّلتها وقائع ثورة لم يكن النيل هذه المرة هو محركها الوحيد ولا حتى الرئيس، بعد أحداث ثورة يناير وتوابعها، وحتى لحظة كتابة هذه السطور، اكتشف قطاع واسع من المصريين أن «مصر هبة شعبها» وأن الشعب الذي نحت النيل ملامحه على مدى آلاف السنين، خرج ليثور على حاكم أقيمت في عهده العديد من مشروعات الري العملاقة في نجع حمادي وأسيوط وغيرها لترويض النهر، وليكسر المصريون قاعدة استقرت تقول إن من يُروِّض النهر يُروِّض الشعب وأن من يُسيطر على المياه يُسيطر على الحياة.
هذا الشعب الذي كسر قاعدة هيرودوت، هو الآن من يخطب اثنان من مرشحي الرئاسة وده بعد ثورة «الملحق» في 30 يونيو، حيث أطاح الشعب ذاته برئيس اختاره 13 مليون مصري بدعوى أنه «بتاع ربنا»، فاكتشف المصريون بعد شهور فقط أنه «بتاع الجماعة وليس بتاع ربنا».
الآن يواجه المصريون لأول مرة اختيارًا قاعدته «الخوف من المستقبل»، وليس «الأمل في المستقبل»، فبعد أكثر من ثلاث سنوات من ثورة كسرت قاعدة هيرودوت، بات المصريون أكثر خوفًا على وطنهم الواحد ونهرهم الواحد، حتى بدا كثير منهم على استعداد ليلوذ مجددًا بقاعدة هيرودوت «مصر هبة النيل» وبتوابعها اللازمة «مصر هبة الزعيم».
ومع مفردة «الزعيم» تبدو فكرة الانتخابات غريبة بذاتها، فالزعامات تنتخبها المواقف لا الصناديق، وتضعها فوق الأعناق جماهير انتخبت الرمز لا البرنامج ولا الرؤية، وهكذا ففيما توشك مصر على الانغماس في معركة انتخابات رئاسية حمى وطيسها أو يكاد، يبدو السباق بين المرشحين الوحيدين في حقيقته سباقا بين من أرادته شريحة واسعة من المصريين «زعيما»، وبين من رشحته شريحة كبيرة من «شباب الثورة» رئيسًا لمصر بعد ثورتين عاتيتين.
لحظة خوف تاريخية على «أم الدنيا» ربما تدفع المصريين إلى اختيار رجل خرج من مؤسسة القوة، وحمل -كما يقول بعضهم- روحه فوق كفه، يوم قرر الانحياز إلى جانب الشعب في مواجهة جماعة كانت أذرعتها الأخطبوطية قد شرعت للتو في عصر ضلوع وطن أنهكته سنوات من الاستبداد باسم الخوف من «الإخوان» في عهد مبارك، ثم أنهكته شهور من الاستبداد في عهد مرسي تحت راية الدين.
بين الاستبداد باسم الخوف من الإخوان والاستبداد باسم الخوف عليهم، يدخل المصريون الانتخابات الرئاسية القادمة تحت وطأة الخوف على الوطن، وهو خوف جديد في بابه، حيث لم يشعر المصريون في أي وقت بأن صميم وجود «أم الدنيا» هو ذاته على المحك، ولهذا فالخيار المصري عند هذا المنعطف التاريخي يهيمن عليه الخوف قبل الرجاء، والعمل من أجل دفع ضرر، قبل العمل من أجل جلب منفعة.
في تلك الأجواء تبدو فرصة المشير عبدالفتاح السيسي أكبر للفوز بمقعد الرئاسة في أكبر دولة عربية، فالرجل تسبقه أعماله وتضحياته من أجل تخليص مصر من لون جديد من الاستبداد باسم الدين، وهو قد استحوذ على النصيب الأوفر من تأييد تيار الواقعية المصرية الذي تُجسده غالبية كبيرة يهيمن عليها البسطاء والنساء، أولئك الذين يستدلون بـ»قلب الأم» على ما يهدد فلذات أكبادهم، بينما ينحصر مؤيدو المرشح الرئاسي حمدين صباحي فيمن يقولون أنهم «شباب الثورة» وبعض الناصريين، وحتى بعض من اعتدوا التصويت للإخوان بحكم الانتماء أو بحكم التعاطف، ممن يرون التصويت لصباحي نكاية «شرعية» في عبدالفتاح السيسي أكثر من كونها اختيارًا واعيًا لرئيس جديد.
المصريون الذين خرجوا في 25 يناير لملاحقة حلم الدولة الديمقراطية الليبرالية الحديثة، استيقظوا من حلمهم على كابوس استبداد يلتحف بالدين، وهم الآن لا يلاحقون حلمًا، بقدر ما يدرأون خطرًا، بات التصدي له وحماية صميم وجود الدولة أغلى أمانيهم، وهم سيصوتون في الغالب لمن يحمي الحدود ويتصدى لقوى الإرهاب المتمسح بالدين.
غير أن دفع خطر الإرهاب ليس المهمة الوحيدة أمام الرئيس القادم، فنهر النيل يظهر مجددًا في الصورة، ليُزوِّد الحاكم الجديد بسبب أشد قوة لتشديد قبضته، حيث تبدو مياه النيل -لأول مرة- في مواجهة خطر وجودي آخر بسبب مشروع سد النهضة الإثيوبي.. النيل يرسم خارطة مصر وجغرافيتها وسكانها، وشخصيتها، وهو أيضًا يوفر الذرائع لحاكم جديد عند منعطف تاريخي جديد، ويزوده بآليات الحشد، وبدواعي بناء القوة والتلويح بها أو حتى استخدامها.. مصر الخائفة هبة نيلها، ومصر القادرة هبة شعبها.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store