Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

بضاعة أتلفها الهوى

"بضاعة أتلفها الهوى"..

A A
"بضاعة أتلفها الهوى".. هكذا عنونت مشهد توقيع اتفاقات وادي عربة بين الأردن وإسرائيل، فيما كانت الرياح تعصف بأوراق الاتفاق، وبما تبقى من بعض شعيرات بيضاء في رأس اسحق رابين رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، بينما كان الرئيس الأمريكي الوسيم بيل كلينتون يلملم خصلات شعره الكثيف، قبل أن تبعثره بعد ذلك بسنوات فضيحة حملت اسم بطلتها مونيكا لوينسكي عشيقته اليهودية في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض.
كتبت وقتها تحت ذات العنوان: كيف أن أحدًا لا يعرف الصورة النهائية التي تريدها واشنطن، لمنطقة كانت قد اعتادت على عبارات من نوع "الشرق الأوسط الجديد"، روّج لها شمعون بيريز وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك، ودعوت إلى محاولة الاطّلاع على خارطة جديدة للشرق الأوسط، قلت إن كلينتون كان يخفيها بجيب سترته الداخلي.
الخارطة إيّاها بدأت تتكشف خفاياها، بعد هجمات 11 سبتمبر، وكشفت حروب جورج بوش الابن في أفغانستان والعراق، بعض أبرز ملامحها، لكنّ أحدًا في المنطقة لم يكن قادرًا، ولو بخياله، على تصوّر تلك الخارطة التي تحدّث عنها رالف بيترز بعد ذلك بسنوات، في كتاب نشره عام 2006، قبل إعدام صدام حسين، وكذلك قبل قتل أسامة بن لادن.
عنوان كتاب الكولونيل المتقاعد رالف بيترز، الذي جرى نشره في مجلة "القوات المسلحة الأمريكية" عام 2006 قد يكون طويلاً، بالمعايير الفنية، لكنه مروّع بمعايير السياسة.
العنوان هو: "wars of blood and faith ..the conflicts that will shape the 21 St century”
أي: "حروب الدم التي ستعيد صياغة القرن الحادي والعشرين".
من وجهة نظر رالف بيترز فإن حدود الدول في منطقة الشرق الأوسط هي أهم أسباب "انعدام العدالة" في الإقليم بحسب رأيه.. وهو يصفها بأنها: "الحدود الأكثر اعتباطية والأكثر تشوّها في العالم".
ويرى بيترز أن العقبة الكبرى التي تعيق محاولة فهم السر وراء الفشل الشامل للمنطقة هي "الحدود الدولية المشوَّهة" التي لا يرى بدًّا من تغييرها بأي ثمن".
ويرى بيترز أن الحدود التي رسم هو خارطتها تصحح الأخطاء التي تعاني منها أهم المجموعات السكانية المخدوعة، مثل الأكراد، والبلوش، والعرب الشيعة، ولكنها لا تزال تفشل في الأخذ بالحسبان بشكل كافٍ مسيحيي الشرق الأوسط، والبهائيين، والاسماعيليين، والنقشبنديين، وكثيرًا من الأقليات الأخرى الأصغر.
ويطرح بيترز تصورًا يقوم على فرضية أن خارطة الشرق الأوسط هي سر أزماته، وأن إعادة رسم الخارطة لتمكين الجماعات العرقية والمذهبية من أن تكون لكل منها دولتها المستقلة هو الحل، وبناء على هذا التصوّر يلحّ بيترز على أهمية تقسيم العراق إلى ثلاث مناطق، تمثل إحداها نواة دولة كردية، ستضم لاحقًا أكراد إيران وتركيا وسوريا، وتمثل الأخرى نواة دولة شيعية عربية تضم إلى جانب جنوب العراق كلاً من البحرين، ومناطق من السعودية، والإمارات، وإقليم عربستان في إيران، وتنقسم سوريا بدورها فيجري ضم بعض من أراضيها إلى لبنان، فيما يجري ضم بعض آخر من السعودية في الشمال إلى الأردن، وبعض من أراضيها في الجنوب إلى اليمن!!
بحسب رالف بيترز فإن الهدف الأساس من وراء إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط، هو تمكين الأقليات العرقية والمذهبية من ممارسة حقوقها في التعبير عن الذات، وتحقيق مصالحها، والتصدّي لكافة أشكال التمييز بسبب الدين، أو العرق، أو الطائفة.. لكن الكولونيل الأمريكي بيترز (62 عامًا) المنحدر من أصول ألمانية، ينسى، أو يتناسى أن ما يطرحه ليس السبيل الأوحد لإنهاء التمييز والتعبير الحر عن الذات، وإلاّ لبات قيام دولة للسود في أمريكا مطلبًا مشروعًا وحيويّاً، وكذلك لذوى الخلفية الثقافية الإسبانية، وثالثة للسكان الأصليين، ورابعة لذوي الأصول الإيرلندية، أو الهولندية.!
أمريكا تستحق التقسيم بمعايير رالف بيترز، لكنه لم يطالب مع ذلك بتقسيمها للدواعي ذاتها، لماذا؟! لأن دستورها ونظامها السياسي والاجتماعي يوفران ضمانات لمواطنيها بالمساواة وعدم التمييز.. أي أن ترسيخ قيم المواطنة والمساواة أمام القانون، وعدم التمييز بين المواطنين بسبب الدين أو الطائفة أو العرق أو اللون أو الجنس، كل ذلك وفر للولايات المتحدة مبررات استمرارها كدولة اتحادية.
شواهد الأحداث من حولنا تقول: إن خرائط بيترز تجاوزت مرحلة اللغو السياسي، ودخلت بالفعل إلى محطة الفعل السياسي، ولهذا فإن التصدّي لمخططات رالف بيترز لتقسيم أوطاننا إلى دويلات، والتي جرى نشرها قبل ثمانية أعوام بمجلة القوات المسلحة الأمريكية، يبدأ بتحصين أوطاننا من الداخل، من خلال رؤية إصلاحية تعتمد مبدأ المواطنة، وتكافح التمييز، وتستأصل أسبابه مهما كانت. خارطة بيترز للشرق الأوسط الكبير، تستهدف بوضوح وبصورة خاصة، كلاً من باكستان والمملكة العربية السعودية، وإن كانت تطال بالطبع كافة دول المنطقة -عدا إسرائيل- التي يعتذّر بيترز عن دمجها في خارطته بدعوى أنها "قضية مستعصية على الحل خلال فترة حياتنا"!! أمّا خرائطنا نحن.. وأوطاننا نحن.. وقضايانا نحن.. فهي مستباحة تقبل الجمع، والطرح، والقسمة، ولا يرى بيترز بأسًا في بذل بعض الدم من أجل إعادة رسمها وفق تصوراته.
عمليات التمزيق تجري على قدم وساق في ليبيا والسودان والعراق، وبدرجة ما في سوريا ولبنان وباكستان، ومحاولات التقزيم والتمزيق تستهدف مصر والسعودية والإمارات، لكن الحصانة الحقيقية للأوطان التي تريد صيانة وحدتها، تبقى في الحفاظ على لُحمتها الداخلية، من خلال تكريس قيم المواطنة الحقة، وإرساء دولة القانون بالفعل قبل القول، وإطلاق عملية إصلاح سياسي واجتماعي واسعة، تعنى بإعداد المواطن من خلال برامج للتعليم والتأهيل والتوظيف والرعاية الصحية والاجتماعية الحقة.
بمعايير "بيترز" فإن الولايات المتحدة هي أجدر الدول بالتقسيم، وفق أسس عرقية، أو مذهبية، أو دينية، أو ثقافية، لكن أمريكا يحفظ وحدتها دستور يحمي قيم المواطنة، ويصون الحريات.. دستور أمريكا أقوى من كل صواريخها النووية، والإصلاح السياسي في العالم العربي والإسلامي هو أقوى الأسلحة في مواجهة مخططات بيترز الأمريكية للتقسيم والتقزيم.
مخططات التقسيم والتقزيم.. تحدٍّ أمريكي لصميم الوجود العربي، لكنها يمكن ببعض البصيرة، وبكل الإرادة أن تصبح بدورها "بضاعة أتلفها الهوى"، تمامًا مثل بضاعة السيد أحمد عبدالجواد بطل ثلاثية نجيب محفوظ الشهيرة.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store