Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

من قلب جامعة هارفارد (3)

تحدثت في مقالي السابق عن الإنجاز الفريد الذي حققته مديرة التعليم في واشنطون بجعلها مؤشر أداء تعليم المدينة يعكس اتجاهه ايجاباً لأول مرة منذ الخمسينات، وذلك ببناء برنامجها الاصلاحي على دعامتين أساسيتين

A A
تحدثت في مقالي السابق عن الإنجاز الفريد الذي حققته مديرة التعليم في واشنطون بجعلها مؤشر أداء تعليم المدينة يعكس اتجاهه ايجاباً لأول مرة منذ الخمسينات، وذلك ببناء برنامجها الاصلاحي على دعامتين أساسيتين هما الاهتمام بالإنسان، والاعتماد على مؤشرات الأداء ومنها معايير التقييم وتوفر البيانات والاحصاءات اللازمة لاتخاذ القرارات. وفي مقالي هذا سأتحدث عن حالة نجاح أخرى كان للتوظيف الفاعل لمؤشرات الأداء دور كبير في تحقيقها.. حالة نجاح تحدثت عنها بإعجاب وسائل الإعلام وأصبحت تستخدم كحالة دراسية case study في كثير من الكليات ومنها كلية كينيدي للإدارة الحكومية بجامعة هارفارد.
بطل هذه الحالة هو "ويليام براتون" الذي عمل مفوضاً (مديراًعاماً) للشرطة في بوسطن ونيويورك ولوس انجليس، كما استعان به رئيس الوزراء البريطاني كاميرون وقلدته الملكة اليزابيث وسام "قائد" عام 2009. وفي عام 2013 أعاده عمدة نيويورك دي بلاسيو ليشغل مجدداً أعلى وظيفة للشرطة في المدينة.
شهرة ونجاح براتون حققها من خلال ثلاثة أمور جوهرية:
1- تطبيق النظرية الأمنية المسماة "النافذة المكسورة Broken Window .
2-استخدام سياسة اللاتسامح zero-tolerance مع الجريمة والمجرمين.
3-الأمر الأهم هو ابتكاره لما يسمى نظام CompSat الإحصائي الأمني.
نظرية "النافذة المكسورة" هي نظرية قدمها عام 1982 عالم الاجتماع جيمس ويلسون واكتسبت منذ ذلك الحين شهرة واسعة وطبقت في كثير من سياسات الإصلاح الأمني. وتنص النظرية على أنه "عندما يتم رصد واخضاع بيئات معينة بعناية وانتظام فان ذلك قد ينتج عنه الحد من عمليات التخريب المتعمد ومنع تطور ذلك الى جرائم أشد خطورة". فالنافذة المكسورة توحي للمخربين بعدم الاهتمام وامكانية إفلاتهم من العقاب لو كسروا نافذة أو نوافذ أخرى، مثلما أن الحي النظيف لا يشجع على رمي المخلفات فيه، فمجرد كونه نظيفاً يعتبر عامل ردع.. وسياسة براتون هنا تقوم على أن حماية المجتمع من الجرائم الصغيرة كالتخريب وتحطيم الممتلكات العامة والخاصة سينتج عنه كبح مقابل تلقائي للجرائم الأكبر الأشد خطورة.
بالنسبة لسياسة اللاتسامح مع الجريمة فتمثلت بمنح براتون لرجال الشرطة صلاحيات أكبر للاعتقال والتوقيف وتنظيف الشوارع بصرامة من المجرمين والمخالفين، وقد استهل ذلك بملاحقة المتسللين للقطارات دون دفع الأجرة، حيث تم القبض على 250,000 شخص منهم. هذا الإجراء لم يوفر فقط مبالغ طائلة للمدينة، ولكنه وجه رسالة لمرتكبي الجرائم الأشد خطورة في قطارات الانفاق بأن الشرطة متواجدة في كل مكان، مما ساهم في تخفيض نسب تلك الجرائم. الرسالة مجدداً هي أن إهمال الجرائم والمخالفات "الصغيرة" يقود الى مخالفات وجرائم أكبر، وبالتالي يجب عدم التهاون إطلاقاً مع تلك المخالفات.. وكما يقال لدينا:
كل الحوادث مبدؤها من النظر..ومعظم النار من مستصغر الشرر.
هذه السياسة تسببت طبعاً في ارتفاع كثير من الأصوات والشكاوى نتيجة لالقاء الشرطة القبض على كثير من المراهقين ومعاملتهم أحياناً بقسوة.. لكن الهدف النهائي لبراتون كان صريحاً وواضحاً وهو الحفاظ على شوارع نيويورك آمنة، وبالتالي فان على الآباء الذين يخشون على أبنائهم من الاعتقال والمحاكمات أن يحسنوا تربيتهم وتوجيههم.
المبادرة الأبرز لبراتون تمثلت بابتكاره لنظام "كومبسات" الأمني الذي انتشر استخدامه بشكل واسع في إدارات الأمن والشرطة. الكلمة هي مزيج من كلمتي كمبيوتر و"ستاتيستيك" أي احصاء، وهو نظام تستخدمه الشُّرط لدراسة ومتابعة اتجاهات الجريمة بشكل يساعد على وضع استراتيجيات محاربتها. براتون فرض تطبيق هذا النظام على جميع الأقسام، وتم تركيب شاشات لعرض خرائط للمدينة توضح حركة الجريمة وخصائصها وتفاعل كل قسم وكل رجل أمن معها. الملفت أنه عند بدء براتون لعمله كانت تقارير الجرائم تقدم بشكل ربع سنوي فطالب بتقديمها أسبوعياً وكان الرد بأن هذا صعب للغاية، وتحت الضغط اقترحوا تقديمها له شهرياً لكنه أصر على استلامها اسبوعياً وكان له ذلك.. والآن مع نظام "كومبسات" أصبح التقرير متوفراً خلال 15دقيقة بتفاصيل واحصاءات وخرائط أدق وتحليلات أشمل. بعدها انتقل براتون الى ما أسماه Compsating Everything أي تطبيق كومبسات على كل تفاصيل العمل الأمني والإداري وتقييم أداء رجال الشرطة والأقسام.
في اليوم الأول لتعيينه وعد براتون بأنه سيخفض الجريمة بنسبة 40%، ورد عليه الجميع بأن هذا مستحيل وكتبت صحف تقول "هذا الوعد هو انتحار مهني مؤكد لبراتون". غير أن ذلك الوعد لم يكن مجرد وعد هلامي أو خطوة لكسب الوقت، فعندما استقال من عمله بعد 27 شهراً كانت الجريمة أقل بنسبة 39%، وانخفضت جرائم القتل بنسبة 50% وذلك وفقاً لمجلة Governing، كما انخفضت جرائم الاغتصاب والسطو والاعتداء وسرقة السيارات بنسب كبيرة.
السؤال الآن هو: هل لدينا "بيل براتون" في شرطنا ومرورنا؟ ما هي نتائج خطط مكافحة الجريمة وحوادث المرور التي تزداد بشاعة عاماً بعد عام؟ هل هناك احصاءات ومؤشرات أداء للخمس وعشر سنوات الماضية وأخرى للخمس وعشر سنوات القادمة وماذا تقول؟ هل ننظر لمخالفات وجرائم المراهقين والأحداث كتخريب كورنيش جدة الجديد والتكسير الاخير في ملعب الجوهرة والتفحيط والسطو والمعاكسات على أنها "شقاوة عيال" أم أنها تؤخذ بجدية باعتبارها ممارسات تمثل نواة وشرارة لجرائم اكبر وأخطر؟
مجرد أسئلة تبحث عن اجابات.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store