Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

مصر فوق الجسر

تحمل بعض شاشات التلفزة المصرية هذه الأيام مؤشراً ينبه المصريين الى درجة شدة الأحمال على شبكة الطاقة الكهربية، بهدف حثهم على خفض الاستهلاك في حال ارتفاعها الشديد، قبل ان تضطر السلطات الى فصل التيار ال

A A
تحمل بعض شاشات التلفزة المصرية هذه الأيام مؤشراً ينبه المصريين الى درجة شدة الأحمال على شبكة الطاقة الكهربية، بهدف حثهم على خفض الاستهلاك في حال ارتفاعها الشديد، قبل ان تضطر السلطات الى فصل التيار الكهربائي بشكل مجدول، عن بعض المناطق لمدة لا تتجاوز في معظم الأحيان نصف ساعة في كل مرة، وتتوقع السلطات أن يتجاوب المواطنون مع ما يحمله مؤشر الكهرباء اليهم من نتائج، وهو ما يحدث بالفعل في معظم الأحيان.
وكما يتجاوب الأشقاء من مواطني الخليج مع مؤشرات سوق الأسهم الحمراء والخضراء، يتجاوب أشقاؤهم المصريون مع مؤشرات شدة الأحمال الكهربائية الحمراء والخضراء أيضاً، لكن تجاوب المصريين واستعدادهم لاحتمال انقطاع مجدول للتيار الكهربائي فيما يستقبلون صيفاً ينذر بحرارة قد لا يحتملها البعض، يشير الى تحول في المزاج السياسي العام لدى الشعب المصري على مدى ما يقرب من عام، منذ الإطاحة بحكم جماعة الإخوان.
قبل عام واحد من الآن كان التيار الكهربائي ينقطع كل يوم ، فيما يقول الرئيس المعزول مرسي لشعبه ان "الواد (فلان) بيشد السكينة لقطع الكهرباء مقابل عشرين جنيه"!!، ولم يتقبل المصريون ذرائع رئيسهم السابق لانقطاع الكهرباء ولا حججه بشأن الطوابير الطويلة في محطات الوقود، فخرجوا في تظاهرات غير مسبوقة مطالبين بسقوط مرسي وجماعته وبوضع نهاية لـ"حكم المرشد"، بعدها بأيام سقط مرسي وانتهى حكم المرشد وجماعته، لكن الكهرباء عاودت الانقطاع فيما واصل المصريون الاحتشاد لدعم حكومة تواصل قطع الكهرباء..ما الذي تغير؟!.. لماذا يسقط المصريون حكماً عانوا معه من انقطاع الكهرباء وشح الوقود، ولماذا يدعمون حكماً لم يضع نهاية بعد لمشكلة انقطاع الكهرباء، وان كان قد أحاطهم علماً بتطوراتها، وأضاف الى مؤشرات الرخاء والشدة في حياتهم مؤشرا جديدا يرصد حالة التيار الكهربائي، وينبههم الى ضرورة التخلى مؤقتا عن أجهزة التكييف وربما حتى عن السخانات والمصاعد في العمارات الشاهقة؟!
خمسة حروف فقط تجسد الفارق بين انقطاع التيار في عهد الاخوان وبين انقطاعه بعد سقوط حكمهم إنها كلمة "الأمل"، أو قل إن المصريين منذ سقوط مرسي قطعوا المسافة بين الخوف من المستقبل، وبين الخوف على المستقبل، وهى مسافة طويلة جداً، ورحلة شاقة للغاية، بدت مصر قبلها وكأنها تغادر مكانها في التاريخ لتتحول الى "أرض الخوف" من المستقبل.
المصريون الذين خرجوا قبل عام مطالبين بسقوط حكم المرشد، لم يكن يعنيهم لا المرشد ولا ممثله في قصر الرئاسة "مرسي"، فالأول قد عاش بينهم أكثر من ثمانين عاماً، ولم يشعروا حتى بوجوده بينهم، والثاني قد اختاره بعضهم رئيسا لمصر بعد ثورة أطاحت بآخر سلالة حكام يوليو، مؤملين أن تتغير معه حياتهم الى الأفضل، لكن انعدام الثقافة وفقر الخيال، والاستغراق في استدعاء حلول ماضوية لقضايا آنية زعمت الجماعة انها استحضرتها من السماء واستدعتها من السلف الصالح، كل ذلك قاد المصريين ربما لأول مرة في تاريخهم الطويل جداً، الى الخوف على الهوية المصرية، فكانت ثورتهم في 30 يونيو "ثورة هوية" تليق بشعب مثقف، يجلس منذ آلاف السنين فوق إرث ثقافي وحضاري عظيم، لا ينافسه فيه أي من شعوب الأرض.
الخوف على الهوية المصرية، كان أقسى أنواع الخوف قاطبة، وحرب استنقاذ الهوية ما تزال أشد وأقسى أنواع الحروب التي يخوضها المصريون، اذ تدور رحاها فوق ارض الوطن وليس على تخومه، ومع بعض عناصر افترض المصريون منذ عشرات السنين انهم مصريون مثلهم، لكن تطاولهم على الهوية المصرية وسعيهم لطمسها هو من كشفهم للناس الذين يحتشدون اليوم خلف حكومة ما زال التيار الكهربائي ينقطع في عهدها، وما يزال الفارق الرئيسي بينها وبين حكومة الاخوان، هو أن الأولى أوضحت السبب الحقيقي لانقطاع التيار وانتجت مؤشراً لتحذير المصريين منه، بينما تعللت الثانية بـ" الواد اللي واخد عشرين جنيه عشان يشد سكينة الكهربا"!
قبل عام كان المصريون يخافون من المستقبل، وبعد عام واحد من الإطاحة بحكم جماعة الاخوان باتوا يخافون على المستقبل، ولعل هذا ما يفسر الفارق في موقف شعب واحد إزاء مشكلة واحدة، الشعب ما زال هو وانقطاع الكهرباء ما زال هو، أما ما تغير فهو أمران فقط: درجة الشفافية بالإفصاح عن السبب الحقيقي لانقطاع التيار الكهربائي،وميل الحكم بعد الاطاحة بحكم الاخوان في شراكة شعبية حقيقية نجحت عبر مؤشر حالة احمال الكهرباء في عموم مصر، في اقناع المصريين طوعا بالمشاركة في ترشيد التيار.
الرهان الحقيقي لإحداث تغيير حقيقي في مصر بات إذن مرهونا بالقدرة على إقناع الجماهير، وكسب ثقتهم، وقد بات المصريون بعد ثورتين من أصعب شعوب الأرض فيما يتعلق بالانصياع للحكم والثقة في الحاكم.
كان الزعيم الفرنسي الراحل شارل ديجول يشكو من صعوبة حكم الشعب الفرنسي الذي يتذوق أكثر من ثلاثمائة نوع من الجبن، وأظن أن الأصعب بالنسبة لأي حاكم في مصر هو كسب ثقة شعب ما اجتمع فيه اثنان الا خرج عن اجتماعهما ثلاثة احزاب وعشرة ائتلافات.
تبدلت أولويات المصريين الذي سيتوجهون الى صناديق الاقتراع بعد اسبوعين فقط لاختيار ثالث رئيس في ثلاثة أعوام، فلم يعد الحلم "الليبرالي" والديموقراطية على النسق الغربي، هى غاية ما يريده المصريون، غالبيتهم الآن تريد "الأمن أولاً" ثم التنمية ثانيا وثالثا ورابعاً، ولهذا فان انحيازاتهم في الصناديق ستكون غالبا الى جانب من يستطيع بسط الأمن واستعادة هيبة الدولة، فالهيبة أحياناً مناط الوجود ذاته وليست مجرد ريشة او خصلة شعر تتطاير فوق جبين وطن.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store