Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

من قلب جامعة هارفارد (4)

تحدثت في مقالي السابق عن أهمية الحزم مع المخالفات والجنح "البسيطة" التي يمكن أن يؤدي التغاضي المستمرعنها لتحولها الى جرائم أكبر وأخطر، منوهاً بالحالة الدراسية الملهمة لمفوض شرطة نيويورك "بيل براتون" ا

A A
تحدثت في مقالي السابق عن أهمية الحزم مع المخالفات والجنح "البسيطة" التي يمكن أن يؤدي التغاضي المستمرعنها لتحولها الى جرائم أكبر وأخطر، منوهاً بالحالة الدراسية الملهمة لمفوض شرطة نيويورك "بيل براتون" المليئة بالدروس والعبر. حالة النجاح التي سأتناولها اليوم قد يبدو للوهلة الأولى أنها تتعارض مع سابقتها، بيد أنهما في الواقع يكمل كل منهما الآخر.. فمن ضمن أكثر من عشرين حالة دراسية تهدف لتطوير مهارات القيادة في العمل الحكومي قدمها لنا البرنامج التدريبي بجامعة هارفارد شدت هذه الحالة انتباهي واستثارتني للكتابة عنها عندما تكرر الحديث فيها عن أحد أحياء بوسطن باعتباره الأكثر خطورة بسبب انتشار الجريمة فيه بشكل مرعب. هذا الحي هو حي دورتشستر الذي أكتب مقالي حاليا من داخله، فهو يعتبر اليوم أحد الأحياء الجميلة الآمنة التي لم أكن سأجرؤ على مجرد الاقتراب منه قبل أقل من عقد ونصف من الزمن.
بذرة التغيير الإيجابي، ليس لهذا الحي فقط، ولكن لجميع أحياء بوسطن المضطربة بدأها مجموعة رجال دين سود بقيادة القسين يوجين ريفرز وجفري براون والذين لم يقبلوا الانكفاء في كنائسهم والاكتفاء بالوعظ والنصح عن بعد بينما الجريمة والعنف والمخدرات تلتهم أبناء مدينتهم بشكل متزايد خرج تماماً عن السيطرة. رجال الدين هؤلاء قاموا عام 1992م بانشاء منظمة أسموها "تحالف النقاط العشرة" Ten Point Coalition والذي يهدف لمساعدة الأحداث في بوسطن على تجنب حياة الانحراف والانضمام للعصابات. هذا العمل المخلص سرعان ما أثمر ونتج عنه انحسار جرائم القتل التي يكون ضحاياها ومرتكبوها من الأحداث وذلك من 73 حالة عام 1990م الى 15 حالة عام 1997م. وفي مارس 2000م نشرت صحيفة نيويورك تايمز مقالاً يثني على هذا الإنجاز قائلة: "تجربة بوسطن هذه في مكافحة الجريمة تعتبر نموذج نجاح إبداعي كبير نجح خلال العامين والنصف الماضية في خفض جرائم قتل الأحداث الى جريمة واحدة فقط". هذا النموذج أصبح يسمى "معجزة بوسطن" وطبقته بنجاح العديد من المدن الأمريكية الأخرى.
"تحالف النقاط العشرة" قام على أربع نقاط أساسية:
1- التواصل المباشر وجهاً لوجه مع الأحداث لكسب ثقتهم وذلك بالخروج الساعة العاشرة مساء كل جمعة والسير في قلب مناطق العصابات حتى ساعات الصباح الأولى. براون وصف الأمر بالمرعب جداً في البداية، لكن "بمجرد اعتياد الأولاد على رؤيتنا وحيازتنا على ثقتهم بأننا هنا فقط لمصلحتهم وليس للاستعراض بقضاياهم أمام الإعلام أو استدراجهم لأفكار وأجندات معينة، حينها بدأوا بالحديث معنا وقبول وجودنا المنتظم بينهم".
2- العمل جنباً بجنب مع الشرطة لتحسين العلاقة المفقودة بينهم وبين الشباب.
3- الوقوف مع الأحداث أثناء محاكمتهم.. براون ورفاقه أسسوا "برنامج الأبوة" بالتنسيق مع المحاكم والاصلاحيات ودور الملاحظة، ويتضمن اتفاقاً على إعفاء الحدث من عقوبة السجن اذا وافق والداه على حضور دورة للبرنامج مدتها 12 أسبوعاً حول كيفية تربية والتعامل مع الابناء المراهقين.
4- الحل يبدأ ليس من الكنيسة ولا الشرطة ولا القوانين، ولكن من الشباب أنفسهم. ومثال ذلك أنه عندما عبرت الشرطة عن استيائها من زيادة جرائم ومخالفات المراهقين خلال الإجازات قام براون بنقاش ذلك أولاً مع مجموعات من الشباب الذين قالوا له :"ماذا تتوقعون منا؟ ليس لدينا مكان آخر نذهب اليه سوى الشوارع، وفروا لنا أماكن مناسبة وسنذهب اليها". بعدها ذهب براون وأقنع بجهد مدراء مدارس المنطقة بترك ملاعب المدارس وغرف تمارينها مفتوحة حتى وقت متأخر من الليل. النتيجة كانت مذهلة حيث وصل عدد المشتركين أكثر من 1100 شاب، كان البديل الوحيد أمامهم هو التسكع في الشوارع مع العصابات.
هذه النقاط الأربعة أثارت لدي أربعة أسئلة مقابلة ذات علاقة:
1-هل فكر دعاتنا بالخروج من حلقاتهم الضيقة والاقتراب من هموم شبابنا وفتياتنا والتواصل معهم عن قرب، ليس للوعظ والافتاء، ولكن لكسب ثقتهم ومساعدتهم بصدق لحل مشاكلهم الحقيقية وإبعادهم عن الانحراف والجريمة قبل وقوعهم بها؟
2-هل يستطيع دعاتنا النشطون على تويتر وفيسبوك ويوتيوب ان يخرجوا من عوالمهم الافتراضية ويضعوا أرجلهم في عمق أحيائنا الفقيرة وفي صميم هموم العوائل المضطربة ومساعدتهم بنقاء وليس لكسب شعبية أو تغطية اعلامية أو جذب واستقطاب لأفكار حزبية وسياسية؟
3-هل يمكن لدعاتنا تقبل حقيقة أن الفجوة تتسع بينهم وبين شريحة واسعة من شبابنا وفتياتنا بسبب لهجة خطابهم الجاف معهم واعتبارهم أندادا منحرفين يجب محاربتهم.. بدلا من استمالتهم وكسب ثقتهم كما فعل القس براون ورفاقه مع شباب بوسطن؟
4- هل هناك أي تنسيق وعمل مؤسسي مشترك لابعاد شبابنا وفتياتنا عن الانحراف والجريمة.. تنسيق شبيه بما قام به القس براون ورفاقه مع الشرطة والمحكمة ودور الاصلاح والتوجيه؟
أسئلة تبحث عن إجابات.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store