Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

بين نقد الإسلاميين ونقد العلمانيين (1)

من المفارقات الغريبة أن يسأل البعضُ عن سبب التركيز على نقد الإسلاميين بشكلٍ عام، والسوريين منهم تحديداً، بشكلٍ أكبرَ من غيرهم.

A A
من المفارقات الغريبة أن يسأل البعضُ عن سبب التركيز على نقد الإسلاميين بشكلٍ عام، والسوريين منهم تحديداً، بشكلٍ أكبرَ من غيرهم. والواضحُ أن غيرهم هنا تشمل كل من يُمكن أن يندرج في خانة (العلمانيين).
فَهمُ الموضوع بهذه الطريقة إشكاليٌ وقاصر، لأن أول أبجديات التفكير المنطقي تؤكد أن الجرعة الأقوى من المُساءلة والاهتمام من قبل الباحثين والنقاد المهتمين بالقضايا العامة يجب أن تكون دائماً لأكثر الشرائح تأثيراً في تلك القضايا. هكذا، بكل بساطة، يجب تأكيد حقيقةٍ مفادها أن من ينقد الإسلاميين ويطلب منهم مراجعة رؤيتهم ودورهم وأساليبهم في التفكير والحركة (يعترفُ)، بممارسته، أنهم أكثرُ الشرائح تأثيراً في الواقع، وخاصةً في معرض الحديث عن الثورة السورية.
ينطبق هذا على شريحةٍ واسعة ممن يمارسُ النقد غيرةً على سوريا وعلى الإسلام. لكن الطريف في الموضوع أنه ينطبق أيضاً على غيرهم ممن يمارسون نقد الإسلاميين. فمتابعة هذا النقد وتحليله تُظهر أنه إما أن يأتي تعبيراً عن منطلقاتٍ أيديولوجية عُصابية، أوعن شوفينيةٍ ممزوجةٍ بمشاعر الإقصاء والديكتاتورية، أو بحثاً عن مصالح فردية وجماعية تتعلق بالسلطة والمال والنفوذ، أو صدوراً عن خوفٍ كامنٍ في الأعماق من الإسلاميين، أو عن كل تلك الأسباب مجتمعة. لكن كل هذا يعني أنهم (مهووسون) بالإسلاميين، والسبب هو أن هؤلاء هم الأكثر تأثيراً على الواقع في نهاية المطاف.
بهذا التحليل، يبدو الإسلاميون أنفسهم، برفضهم المتكرر للنقد الموجه إليهم، واقعين في تناقضٍ منهجي متعدد الأبعاد. فإما أنهم لايعتبرون أنفسهم الأكثرَ تأثيراً في الواقع، مع أن كلﱠ ممارساتهم العملية وتصريحاتهم تؤكد عكسَ ذلك. أو أنهم مؤمنون بدرجة تأثيرهم الحقيقية، لكنهم فعلاً يرفضون النقد لمجرد رفضه أياً كان مصدره، ولأسبابَ فصلنا الحديث عنها في مقالٍ سابق.
ثمة مفهومان هنا يحتاجان لتوضيح. فالحديث عن درجة تأثير الإسلاميين السوريين في واقع الثورة لا يعني بالضرورة أن هذا التأثير إيجابي، وإلا لما كان للنقد معنى.
ثم إن استخدامنا لمصطلح الإسلاميين، وتحديداً في الوضع السوري، يستهدف تلك التجمعات والتنظيمات والأحزاب التي تكاثرت كالفطر في المجالات السياسية والعسكرية والدعوية، وهي تؤكد، بلسان الحال وبلسان المقال، تصديها لقيادة الثورة وتمثيلها وتمثيل السوريين.
ولايدخل في نقدنا لمن نَصِفهم (إسلاميين) ملايين السوريين المسلمين بالتأكيد. كما لا تدخل فيه شريحةٌ واسعةٌ، لكنها ليست مؤطرةً في أي هيكلٍ تنظيمي، من السوريين الكتاب والمفكرين والنشطاء والمثقفين، الذين ينطلقون في تفكيرهم وحركتهم من مرجعيةٍ إسلامية بشكلٍ أو بآخر.
بل إن الغالبية العظمى من هؤلاء يطرحون، على المستوى الفكري، ويقدمون نماذج عملية، هي بمجموعها أقربُ لتمثل قيم الإسلام ومقاصده الحضارية الكبرى. وكثيرٌ منهم يمارس ابتداءً نقدَ الفهم الإسلامي التقليدي السائد، ويدعون للمراجعات، ويرفضون كثيراً من دعاوى احتكار الإسلام من قبل أي جماعةٍ أو حزبٍ أو فصيل.
أهمﱡ من هذا، ثمة احتمالٌ كبير بأن اجتماع هؤلاء في تيارٍ فكري وثقافي أكثر تنظيماً، وتزايد درجة تواصلهم وتنسيقهم، وصولاً إلى تجميع عطائهم وإيصاله إلى السوريين بشكلٍ مؤسسي أكثر فعالية، يمكن أن يكون أحد مداخل حلول التعامل الفعال مع الإشكاليات التي يُسبِّبُها (الإسلاميون) بمعنى المصطلح المذكور أعلاه.
وإذا كان لنا أن نستخدم، تجاوزاً، المدخل الفقهي في هذا المقام، فقد ينقلبُ مثلُ هذا النشاط في حقِّهم (فرضَ عين) للمرابطة في ثغرٍ لم يعد يمكن تغطيته بمداخل (فروض الكفاية).
إن (غياب التراكم المعرفي) يُعتبر مشكلة المشاكل في حياتنا الثقافية والفكرية. فمثل هذا التراكم يُعتبر عِمادَ عمليات التغيير والتطوير الكبرى في المجتمعات التي تتحكم أنظمتها السياسية والاقتصادية بمفاصل النظام العالمي المعاصر، وذلك من خلال استفادة هذه الأنظمة من التراكم المذكور ومايضخُّه فيها من مُعطيات وأدوات وأفكار.
بالمقابل، تطغى الفردية الصارخة على عمل المثقفين والمفكرين والباحثين والكتاب العرب عموماً، لكن الفردية هذه واضحةٌ جداً فيما يتعلق بعطاء وإنتاج الشريحة التي نتحدث عنها من السوريين غير الحزبيين ولا المنظمين، ممن يفكر ويكتب ويتحرك بخلفيةٍ إسلامية.
إذ يندر في مثل هذه الظروف الحساسة أن تجد تعاوناً جدياً بين أفرادهم، ولاأعتقد مثلاً بوجود بحثٍ أو كتابٍ أو ورقةٍ اجتمع على العمل فيها باحثان منهم، وتتعلق بواحدةٍ من المسائل العديدة المتعلقة بالثورة، وإن كان يُعالجُها، جميعها تقريباً، كل واحد منهم بمفرده، عبر كتابٍ أو مقالٍ أو مشاركةٍ (فسبوكية) أو تغريدة..
وإذا كان هذا مقبولاً بحكم أمرٍ واقعٍ له ظروفه وملابساته قبل الثورة، فإنه يُصبح أمراً متناقضاً مع كل منهجيةٍ تَحكُمُ عمل المثقفين من جهة، وتنبثق من فهمٍ أصيل لقيم الإسلام من جهةٍ أخرى. خاصةً بعد أكثر من ثلاث سنوات من عمر الثورة، باتَ واضحاً فيها لهم أين تكمن المشكلة ومن أين تبدأ مسيرة البحث عن الحلول.
لاتبدو ثمة حلولٌ ناجعة لدى (الإسلاميين) بتوصيفهم المذكور أعلاه. ولاتبدو الغالبيةُ العظمى من العلمانيين، السوريين تحديداً، في مقام القدرة على تقديم مثل تلك الحلول. وإذا كنا قد فصَّلنا الحديث عن الشريحة الأولى في أكثر من مقال سابق، فإن قلة تركيزنا على الشريحة الثانية يأتي انسجاماً مع المقولة الرئيسة الواردة في أول المقال. فهم الأقل تأثيراً فيما يجري على أرض الواقع. والطريفُ أن شكوى بعضهم المستمرة من الإسلاميين تحمل مؤشراً على تناقضٍ آخر قد يكون أسوأ من ذاك الذي يعيشه الإسلاميون.
وإذا كانوا يتهمون الإسلاميين بأنهم يغسلون أدمغة السوريين بالغيبيات ويشترون ولاءهم بالعواطف والشعارات، فإن هذا يستدعي ملاحظتين. الأولى تتمثل في شبهة إلقاء التبعة واللوم على الشعب السوري الذي كثيراً مايتغنون بوعيه ووطنيته، في حين أن كلامهم يحمل شبهة نظرةٍ دونيةٍ لشعبٍ تلك صفاته. ثم إن هناك سؤالاً كبيراً قد يدل على حالةٍ من الإفلاس الثقافي والفكري والتنظيمي لديهم، لأن عليهم أن يسألوا أنفسهم أين ذهب زادهم الفكري ومؤونتهم المعرفية التي كان يجب أن تجتذب عقول وقلوب السوريين. الأمر الذي يعني في نهاية المطاف نوعاً من الهروب الكامل.
ثمة من ينظر إلى الموضوع، في صفوف من يُصنفون علمانيين، ويحاول معالجته بمقاربةٍ مختلفةٍ تماما. وقد يكون في طروحات هؤلاء، وفي تعاونهم مع شريحة المثقفين والباحثين المستقلين من خلفية إسلامية، مدخلٌ لفتح نافذةٍ لتصحيح مسار الثورة. هذا ماسيكون موضوع كلامٍ قادم.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store