Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

فنانو الثورة: فارس الحلو مثالاً (2)

كما تحدثنا عن رفاقه، انخرط فارس في الثورة من بداياتها بحسمٍ ودون تردد. لم يفعل ذلك بالإشارات أو التصريحات أو المشاركات (الفيسبوكية)، وإنما بالفِعل العملي والتظاهر في الشارع مع الناس.

A A
كما تحدثنا عن رفاقه، انخرط فارس في الثورة من بداياتها بحسمٍ ودون تردد. لم يفعل ذلك بالإشارات أو التصريحات أو المشاركات (الفيسبوكية)، وإنما بالفِعل العملي والتظاهر في الشارع مع الناس. لكنه عبَّرَ عن مشاعره بعد مظاهرة الفنانين المشهورة حين كتب على صفحته الخاصة: "كنا قلة قليلة وقلقة، وما إن وصلنا حتى دُهشت من حجم المجموعة وقد كبرت.. كثر انضموا لها، صرنا في وسطها شباب وفتيات أغلبهم لا أعرفهم، فجأة صدح صوت سماوي لأحد الشجعان بهتاف البدء ولتردد وراءه الحناجر الذهبية، هي لله هي بالله ما منركع غير لألله.. وليعقبه بهتافات تنفي الطائفية والإثنية لصالح الحرية والمدنية".
قبلها، كان فارس أحد الأمثلة على قلةٍ تمتلك (الحلم) وتجرؤ على (المبادرة)، وذلك حين جمع (تحويشة) العمر ووضعها في مشروع عزيز على قلبه لإقامة "ورشة البستان للثقافة والفنون". ورغم استغراب البعض، ورغم كونها "فكرةً جنونية، وواحدة من تهويمات هذا الممثّل القلق الذي لا يركن إلى ضفة" كما قال أحدهم. ورغم أنها لم تلقَ دعم الجهات الحكومية والأهلية، لكنه اعتبرها جزءاً من "ممارسته للمواطنة" وثابر عليها حتى نجح. "وإذا بشوارع البلدة الجبلية وساحاتها تستيقظ بعد أشهر، على مشهد آخر: تماثيل من الرخام تزيّن الأماكن المقفرة بأشكال واقعية لم يألفها النحت السوري منذ أزمنة طويلة" كما ذكر تقرير إعلامي آنذاك. ثم أقام فيه ملتقىً للنحت العالمي باسم (جمال الحب).
ذهب حلم فارس بعيداً، فقد كان يريد أن يتحوّل (الهنغار) الذي كان حظيرةً للأبقار، إلى فضاءٍ ثقافي لفعاليات إبداعية مغايرة، فقال يومها: "أفكر بأن نقيم أسبوعاً سينمائياً في الهواء الطلق، وأن نبني مكتبة للإعارة المجانية، وإقامة ورشات جديدة للنحت والرسم".
المفارقةُ أن زبانية النظام هاجموا (البستان) بعد مواقفه المنحازة للثورة، وعندما بدؤوا بتحطيم المنحوتات الموجودة فيه سألهم فارس بأسلوبه الساخر المعهود عما إذا كانوا قد أصبحوا حكومةَ طالبان، التي حطمت التماثيل التاريخية في الحادثة المعروفة منذ سنوات.
تصاعدت حملات التشويه ضده مع الأيام، ذلك أن النظام كان يعرف حجم الأذى الناتج عن انحيازه للثورة لكونهِ، من ناحية، فناناً له شعبية ومُحبون، ولأنه، من ناحيةٍ ثانية، أحد أبناء المواطنين السوريين المسيحيين. فمثل هذه الصفات كانت تساهم في إلغاء قيمة ورقتين من أهم أوراق النظام: أن قطاع الفنانين والمثقفين يقف معه ضد الثورة، وأن الثورة إسلامية بحتة.
المفارقة أن مثل هذه الحملات لم تكن تعمل إلا على توضيح موقفه المؤيد للثورة بشكلٍ أكثر وضوحاً. فعندما استغل البعض عدم توقيعهُ على ماسُمي (بيان الحليب) المشهور لأطفال درعا، أرسل لبعض وسائل الإعلام يشرح حقيقة موقفه الذي تلخص في العبارة التالية: "رفضت التوقيع على النداء بسبب أنه كان ضعيفاً ومتباكياً ولم يرق لمستوى الفاجعة حينها، فهو لم يذكر الشهداء وقاتلهم ولم يدِن فاعل الحصار، ولم يكن غاضباً تجاه المستبد، قدر مناشدته إياه تمرير الغذاء من حصار غذائي مفروض على درعا".
ثم ظهر على شبكة الانترنت موقع سمى نفسه (أكبر تجمع مسيحي سوري على الفيسبوك) وقام بتهديده المرة تلو الأخرى، وبإطلاق أوصاف الخيانة والعمالة والارتزاق عليه. كما قامت مواقع أخرى موالية للنظام بإطلاق تهديدات تعطيه فيها المُهَل وتنذره بفضحه حول ممارسات ومغامرات مزعومة.
لم يُبالِ فارس بكل ذلك الهجوم، وأصرَّ على خياره الغالي، فاضطر بعد أشهر إلى مغادرة سوريا بعد ارتفاع وتيرة التهديدات والضغوط. وعندما التقيناهُ في اسطنبول، بعد رحلة الهجرة التي قادته مع زوجته وابنتيه إلى باريس، كانت زوجتي تُلح عليه للقيام بأعمال فنية، ولو بسيطة، للثورة وأهلها، لكنه كان يتوق للقيام بعملٍ راقٍ "يليق بعظمة هذه الثورة وهذا الشعب" كما قال. لم يمنعهُ هذا بالطبع من زيارة مخيمات وأماكن وجود اللاجئين السوريين بحثاً عن فرصٍ لخدمتهم، ثم المشاركة في مشاريع صغيرة متنوعة في هذا الإطار.
وأخيراً، ظهرت أصالة المعدن مرةً أخرى منذ أشهر حين عُرضت عليه المشاركة في عملٍ فني ضخم ينتج عنه عائدٌ يعينه في رحلة الغربة الصعبة.. لكنه عرف أن فنانين من (شبيحة) النظام مشاركون فيه. فرفض بعبارةٍ واحدة: "لن أظهر في مشهدٍ واحد مع السفلة".
بهذا الموقف، يُبقي الفنان الحاصل عام 2008 على جائزة أفضل ممثل في "مهرجان فالنسيا الدولي"بإسبانيا، شعلة الأمل حيةً، حين يتعلق الأمر بالحفاظ على المنظومة القيمية الأصيلة للثورة السورية.
حقٌ ماقاله الصديق إياد شربجي عن فارس:"ابن الثورة المسيحي فارس الحلو، يرفض العمل مع ابن النظام السنّي مصطفى الخاني.بأمثال فارس ما زال في ثورتنا خير كثير، وما زالت الثورة لكل أبنائها الشرفاء كائناً ما كانت ديانتهم وأفكارهم".
يقولون أن للإنسان نصيباً من اسمه. تُفكرُ في نماذج من السوريين صارت أمثلةً على النذالة والبشاعة وتتساءل: كيف لايكون صديقُنا مَن هو عليه واسمه: فارس الحلو.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store