Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

غزة والهدايا العربية لإسرائيل

في الوقت الذي كانت فيه إسرائيل تستخدم آلتها العسكرية المتطورة لتمارس كافة أشكال القتل والتدمير في غزة انطلاقاً من كل الجبهات البرية والبحرية والجوية، كانت في نفس الوقت تمارس شكلاً آخر من أشكال القتل و

A A
في الوقت الذي كانت فيه إسرائيل تستخدم آلتها العسكرية المتطورة لتمارس كافة أشكال القتل والتدمير في غزة انطلاقاً من كل الجبهات البرية والبحرية والجوية، كانت في نفس الوقت تمارس شكلاً آخر من أشكال القتل والتدمير الذي لا تسيل له دماء ولايحدث ضجيجاً على الأرض لأنه قتل يستهدف تدمير الروح العربية من الداخل، وشل الضمائر الغربية وخداعها بالدعاية وقلب الحقائق عبر استخدام آلتها الإعلامية التي تمكنت من بنائها بسيطرتها على أهم وأشهر وسائل الإعلام العالمية.
لقد أدركت إسرائيل من البداية أنها دولة محتلة وظالمة وأن ما سيضمن لها البقاء لأطول فترة ممكنة ليس آلتها العسكرية الفتاكة بل آلتها الإعلامية والنفسية التي خططت وعملت بها على تفتيت العرب وتقسيمهم وهزيمتهم معنوياً قبل هزيمتهم عسكرياً على الأرض.
ورغم كل الجهود التي بذلتها إسرائيل لتحقيق هذه الأهداف ونجاحها جزئياً في ذلك خلال العقود الماضية، إلا أنها تمكنت خلال الخمس سنوات السوداء الأخيرة التي عصفت بالعرب -ودون أي مجهود يذكر من قبلها- في تحقيق انتصارات ومكاسب أضعاف ما حققته طوال تلك العقود.. انتصارات مجانية جعلت الإسرائيليين يصرحون ولأول مرة في تاريخهم بأن التهديد العربي لهم قد اختفى تماماً. هذه التصريحات الإسرائيلية أشرت إليها في مقال سابق لي بعنوان (ربيع الدمار العربي الحارق) والذي نقلت فيه مقتطفات من محاضرة على اليوتيوب لديفيد وينبيرج مدير مركز بيجن للدراسات الاستراتيجية تغنّى فيها بدمار جيوش عربية كالجيشين العراقي والسوري مؤكداً أن المجتمعات العربية من ليبيا لتونس ومصر تزلزلهم صراعات داخلية "لم تصل للأردن للأسف"!!.. وقال "التهديد العربي اختفى وهذا ربح صافٍ لنا له أهمية هائلة طويلة المدى.. أقول لكم إن إسرائيل تنتصر".
لقد احتفل ديفيد وينبيرج وابتهج في محاضرته تلك بالانتصارات العسكرية المجانية التي حققتها إسرائيل دون أن تطلق رصاصة واحدة أو تحرك أياً من آلاتها العسكرية، لكن ما لم يكن يعلمه حينها هو أن تلك لم تكن آخر الهدايا المجانية لإسرائيل، حيث تبرعت جماعات تسمي نفسها “إسلامية” بتشويه صورة الإسلام والمسلمين بشكل يفوق كل ما كانت آلة دولته الإعلامية تخطط وتحلم به، فلقطات جز الرؤوس والإعدامات الجماعية والصلب والرجم التي انتشرت على شبكات التواصل العالمية وتناقلتها قنوات التلفزيون في كل مكان تكفلت بطلاء صورة المسلمين بلون أسود قاتم استخدمه مؤيدو إسرائيل مؤخراً في مسيراتهم في العواصم الغربية لتخويف الغرب من “الإرهابيين المسلمين” رافعين لافتات كتب عليها “اليوم في بغداد وغداً في باريس”، “اليوم في سوريا، وغداً في لندن”، “اليوم في إسرائيل وغداً في واشنطن”.
هل هذه هي آخر الهدايا المجانية لإسرائيل؟ للأسف لا، فبينما كانت إسرائيل تقوم بقتل أكثر من ألف فلسطيني منهم عشرات الأطفال الذين انتشرت صور أشلائهم الممزقة في وسائل الاعلام الجديد والقديم بشكل مؤثر غير مسبوق، كان كثير من "المثقفين" العرب يقوم باستخدام تلك الصور والجرائم ليس لتعرية إسرائيل وفضحها، ولكن لتشويه خصومهم فكرياً.. فطرف “يصهين” كل من انتقد حماس ليس نصرة لشهداء غزة ولكن دعاية ملطخة بالدماء للإخوان، وطرف آخر جعل كل همه انتقاد حماس ونسي أو تناسى أن الأولى في هذا الظرف هو توجيه كل سهام النقد للعدو المحتل.. بينما تجاوز طرف ثالث -قليل جدا ولله الحمد- كل الحدود الاخلاقية بالثناء على ما تقوم به إسرائيل من جرائم بحق الفلسطينيين نكاية في حماس.
عذرا لهذه المقدمة السوداء الطويلة فهذا هو حال العرب اليوم الذي عليهم أن يعرفوه ويعترفوا به. ولكن ورغم كل ذلك فقد كشفت حرب غزة عن حقائق إيجابية ينبغي على العرب أيضاً أن يعرفوها ويستثمروها، وأولها هشاشة وضعف إسرائيل التي تمكنت مقاومة محاصرة في سجن كبير من قتل عشرات جنودها وتكبيدها خسائر اقتصادية ومعنوية واعلامية هزت كيانها. هذه الحقيقة تعني أن جر إسرائيل ذاعنة إلى طاولة مفاوضات عادلة وكريمة لا يتطلب من العرب سوى شيء واحد فقط -هو الكابوس الذي يؤرق عدوهم- ألا وهو نبذهم لخلافاتهم ووقوفهم موقفاً واحداً صادقاً. إننا اليوم في عالم لا يحترم سوى الأقوياء، وقوة إسرائيل الحقيقية هي في ضعف العرب وتشتتهم.
الحقيقة الإيجابية الثانية أشرت لها في مقالي السابق وهي أن وسائل الإعلام الجديد تمكنت وبشكل غير مسبوق من فضح ليس فقط الجرائم الإسرائيلية البشعة ولكن أيضاً كشف فضائح الإعلام الغربي المنحاز، حيث نقلت صحافة المواطن من يوتيوب وشبكات تواصل اجتماعي للعالم ولأول مرة صور الفظائع الإسرائيلية التي كان الإعلام الغربي المنحاز يداريها ويقلبها. ان العرب والمسلمين لديهم اليوم أهم متطلبات التفوق على وسائل الاعلام الجديد وهي توافر التقنية والكثافة العددية وتعدد اللغات، وقبل كل ذلك عدالة القضية. لقد أصبح سلاح "المقاومة الاعلامية" في يد كل فرد من الشعوب العربية فهل يوجهونه نحو عدوهم المشترك المحتل لمقدساتهم أم يثبتوا أنهم ايضا داعشيون فكريا ويوجهونه نحو بعضهم بعضاً؟
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store