Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

الوطن.. والتاريخ.. والتعليم العالي

كثيرا ما نُردّد مقولة «من ليس له ماضٍ ليس له حاضر ولا مستقبل»، لكننا لا نمارسها واقعا عمليا في حياتنا اليومية إلا في مناسبات محددة ومحدودة.

A A
كثيرا ما نُردّد مقولة «من ليس له ماضٍ ليس له حاضر ولا مستقبل»، لكننا لا نمارسها واقعا عمليا في حياتنا اليومية إلا في مناسبات محددة ومحدودة. والأدهى أننا لا نعلّمها للأجيال الشابة في مجتمعنا الشاب إلا فيما ندر، لذلك يحق لي باسم كل القراء أن أطرح مجموعة من الأسئلة المحرجة لي شخصيا، وأظنها كذلك لآخرين كُثر وخصوصا جيل الشباب من أبنائنا:
1- كم من الكتب عن تاريخ بلادنا اقتنينا أو قرأنا، وكم من صفحات الشبكة العنكبوتية تصفحنا حولها كذلك؟
2- كم عدد الندوات والمحاضرات العامة التي حضرناها، بصفة اختيارية، حول تاريخ المملكة ورجالاتها وقياداتها؟
3- يرتبط التاريخ برابطة قوية جدا بالجغرافيا. هل نستطيع تحديد أماكن ذات بعد تاريخي في رقعة هذه البلاد الشاسعة - بخلاف مكة والمدينة- أم أننا نعرف الأماكن السياحية فقط؟
4- لو طلب منا زائر أجنبي أن نحدثه عن شيء من تاريخ وجغرافية بلادنا، هل نستطيع أن نقدم شرحا حول الموضوع لأكثر من خمس دقائق؟
لا شك أن التاريخ هو من أهم المكونات الأساسية لكيان وملامح الأمة. فمن الواجب في مرحلة التكوين للشباب، أن يُزرع تاريخ الوطن في وجدانهم، لكي يُحسّوا بمعنى الانتماء للوطن، من خلال معرفتهم كيف تطور مجتمعهم، وما الذي صاحب ذلك التطور من تضحيات ومعاناة وشدائد وصعوبات وانتصارات ومنجزات. لا بد أن يدرك الشباب عمق ارتباط وطنه تاريخيا بدول الجوار، وبالتدفق المعلوماتي لتسلسل تلك العلاقة وتطورها. حينذاك فقط وحين يحمل الشباب تاريخهم في ذواتهم ووجدانهم فإنهم يظلون يقظين لتميزهم وعمق أصالتهم وسخاء مقدرات وطنهم الذي وُلدوا فيه وترعرعوا على ترابه، ويصبح حينها لمقولة «من ليس له ماضٍ ليس له حاضر ولا مستقبل» معنى وتأثير في النفوس ويكون فخرهم بوطنهم مبنيا على معرفتهم بحقائق لا يهزّها التشويش، وما أيسر ذلك في زمن التدفق المعلوماتي الضخم.
في جميع بلاد العالم بلا استثناء كان تدريس التاريخ (الوطني) ولا يزال أحد المتطلبات الوطنية الكبرى. فعلى سبيل المثال، وبالرغم من أنه لم يمض على تكوين الولايات المتحدة الأمريكية سوى قرنين ونيف من الزمان، فإن الطالب الأمريكي يدرس مقررين في التاريخ: تاريخ الولاية التي يعيش فيها، نظرا لاختلاف طبيعة المستوطنات (الولايات لاحقا) التي نشأت في تلك القارة المكتشفة حديثا؛ وتاريخ «الأمة الأمريكية» وعلى عدة مستويات ومراحل. أما في الهند فلا يمكن لأي مواطن كائنا من كان أن يلتحق بأية وظيفة، إلا بعد اجتياز امتحان في تاريخ الهند كما جاء في كتاب The History of India ويدرس فيه تاريخ الزعماء والسياسيين ورجال العلم والثقافة الذين أثّروا في تاريخ البلاد، تأكيدا للانتماء الوطني، وغير هذين المثالين الكثير.
نحن، في المملكة العربية السعودية نتميز وبكل فخر بتواصل وترابط شديدين في التاريخ والجغرافيا منذ مئات السنين، ولا يمكن البتة أن نوجد حدا فاصلا في التتابع التاريخي والحضاري لا زمانيا ولا مكانيا في مملكتنا، بل إن هذا التواصل التاريخي يمتد بجذوره إلى ما قبل الإسلام بمئات السنين.
قبل أيام ضمني مجلس مع نخبة من الزملاء وكان فيهم بعض المقيمين الفضلاء، وتطرق الحديث إلى تدريس التاريخ الوطني بالجامعات، فقال أحد المقيمين «لكم الفخر في المملكة أنكم تستطيعون ربط التاريخ بالجغرافيا بالرسالة المحمدية، وبتاريخ العرب ما قبل الإسلام، وهذا ما لا يتيسر لغيركم في كل بلاد الدنيا...»، وأردف: «كم تمنيت أن أكون من هنا»..! وتابع أحد الجلوس قائلا: «نستطيع وبكل فخر أن نقول إن موحد الجزيرة العربية في مسيرته الموفقة انطلق في رؤيته التوحيدية على مبدأ أجداده في التوحيد والذين ساروا جميعا برؤية عميقة حول ارتباط الإسلام بتاريخ وجغرافية المملكة بل وبأدبها وشعرها».
أجزم أن تدريس تاريخنا الجغرافي وجغرافيتنا التاريخية للمملكة في مؤسسات التعليم العالي، لن يكون استكمالا روتينيا لمنهج يراد تدريسه، وكما يُقال: (رفعا للعتب وحسب!)، ولكنه تأصيل لمفهوم «معرفة الجذور» والفخر بها وشحذ الهمم استنادا على ماضٍ تليدٍ والانطلاق به إلى آفاق مستقبلية أوسع وأرحب، وتأكيدا على مقولة «من ليس له ماضٍ ليس له حاضر ولا مستقبل»، فلنمض في مؤسسات التعليم العالي، على بركة الله في إقرار وصياغة مناهج دراسية لتاريخنا الوطني مستلهمين كل تلك المحددات (العمق التاريخي والديني والثقافي والجغرافي)، تأكيدا لمفهوم الولاء والانتماء لهذا الوطن المعطاء، ولتكن تلك المناهج تطبيقات عملية وتفاعلية وميدانية ودراسات بحثية لا محاضرات نظرية باردة، تختفي ويتلاشى أثرها مع انتهاء امتحاناتها كمادة من ضمن المواد الدراسية. هكذا نستطيع أن نُحيي في جيلنا الحالي وأجيالنا القادمة مفاهيم تكاد تخفيها حركة الأحداث المتسارعة من حولنا.. لولا وجود بعض الإضاءات التي تظهر أحيانا هنا وهناك مرتبطة بالمناسبات الوطنية أو الذكريات المهمّة.. وبالله التوفيق.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store