Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

باب ما جاء في الحثّ على أن يُسافِهَ عنك السفهاء

باب ما جاء في الحثّ على أن يُسافِهَ عنك السفهاء

بابٌ نادرٌ، ساقطٌ من تراثنا (بحمد الله)، لكنّه منثورٌ فيه (وإنّا لله!)! أحسبه اليوم من أكثر الأبواب اتباعًا وعملاً!!

A A

بابٌ نادرٌ، ساقطٌ من تراثنا (بحمد الله)، لكنّه منثورٌ فيه (وإنّا لله!)! أحسبه اليوم من أكثر الأبواب اتباعًا وعملاً!! فتجد العالِم والداعية (أو الموصوف بكونه عالمًا أو داعيةً) يفرح بوجود سفيه يدافع عنه وعن آرائه، بالشتم والافتراء والتطاول على العلماء الآخرين!!
فأحببت أن أُبرز هذا الباب المفقود، وهو باب غير نبوي (فحاشاه صلى الله عليه وسلم منه)، ولا هو من هديه صلى الله عليه وسلم . لكن حضوره في الساحة الحوارية (وأربأ بالعلم أن أقول: الساحة العلمية) أصبح أَظهرَ من حضور العدل والإنصاف والأخلاق الرفيعة. فرأيت من باب «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا» بالمعنى الجاهلي لهذا المثل، لا بالمعنى الإسلامي الذي نقله النبي صلى الله عليه وسلم إليه = أن أُتحف إخواني العلماء والدعاة بهذا الباب الطريف.
ولستُ مضطرًا لبيان بطلان الاحتجاج بالإطلاقات التي سأذكرها في هذا الباب؛ إذ إنني سأدع عامّة التفسير والتوجيه، ورفع الإشكال لأصحاب العقول الرشيدة والأخلاق الحميدة!! فأي عقل يمكن أن ينخدع بإطلاق هذه المقالات، وبإنزالها على واقعنا المؤلم من فقدان الأخلاق والشِّيم ليس عقلاً يمكن أن يُخاطَب! وأي خُلُقٍ يستجيز هذه السفاهات لن يكون صالحًا لفهم معنى أن الأخلاق أرسخ من أن تهزها أو تشكك فيها عبارة هنا وأخرى هناك!!
فإلى بابنا البديع:
باب ما جاء في الحثّ على أن يُسافِهَ عنك السفهاء:
صح عن الإمام التابعي والفقيه مكحول الشامي، أنه كان في مجلسه العالِم الزاهد سليمان بن موسى، فجاء رجل فاستطال على سليمان بن موسى بالشتم، فسكت سليمان، فقام أخ لسليمان لذلك الرجل ورد عليه. فقال مكحول حينئذٍ: ذلّ من لا سفيه له!!
أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الحلم (رقم ١٠٠)، وابن حبان في روضة العقلاء، وابن عدي في الكامل (٣/ ٣٦٥)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (٥/ ١٨٤)، والبيهقي في شعب الإيمان (رقم ٨٧٣٠)، وابن عساكر في تاريخ دمشق.
هذا أعلى ما صح في هذا الباب، ولا يصح أعلى منه.
وقد قدّمه ابن حبان بقوله: «ما ضُمَّ شيء إلى شيء هو أحسن من حلم إلى علم، وما عُدمَ شيءٌ في شيء هو أوحش من عدم الحلم في العالم. ولو كان للحلم أبوان: لكان أحدهما العقل، والآخر الصمت. وربما يُدفع العاقل إلى الوقت بعد الوقت إلى من لا يرضيه عنه الحلم، ولا يُقنعه عنه الصفح. فحينئذٍ يحتاج إلى سفيه ينتصر له؛ لأن ترك الحلم في بعض الأوقات من الحلم».
أمّا ما كان يتداوله بعض الناس منسوبًا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:( خاب من لا سفيه له) = فليس له أصلٌ عنه صلى الله عليه وسلم، كما نبّه على ذلك السخاوي في (المقاصد الحسنة) ومن تبعه في كتب الأحاديث المشتهرة على الألسنة؛ فهو ممّا لا يجوز أن يُنسب إليه صلى الله عليه وسلم.
وكذلك يُروى أن عبدالله بن عمر أنه كان إذا خرج في سفر أخرج معه سفيهًا، فإن جاءه سفيه ردّه عنه. فإسناد هذا الأثر شديد الضعف فيه سلم بن سالم البلخي، ونوح بن أبي مريم وكلاهما متّهم بالكذب، أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (٣١/ ١٧٥).
وثاني ما صح في هذا الباب، ما صح عن الإمام الشافعي أنه قال: «لا بأس بالفقيه أن يكون معه سفيه يسافه به». وتعقبه المزني (تلميذ الإمام الشافعي) بإنشاده لهذا البيت:
إن من أحوجك الدهر إليه
فتعرضت له هنت عليه
وهذا محمول من الإمام الشافعي على من يدفع عنه الشر، ويصد عنه تطاول السفهاء، لا من يقابل الشر بالشر، ويُسافه السفهاء. وتعقيب المزني على كلام شيخه: يدل على خطورة من لجأ للسفهاء، وأنه إذا انتصر بهم ذلَّ لهم، ولو بعد حين.
ومن أخبار العرب في هذا الباب، أنه كان فئة من بني تميم يتخالفون ويتصايحون، والأحنف بن قيس ينظر إليهم، فقالت عجوز من الحيّ: ما حكمكم أقل الله عدوكم؟! فقال لها الأحنف: مه! ولمَ تقولين ذاك؟! لولا هؤلاء لكنا سفهاء. أي: إن أولئك السفهاء هم الذين يدفعون السفه عنا.
ولكن انظر ماذا ورد في ديوان العرب ممّا يبيّن رسوخ الأخلاق عندهم:
بني عدي ألا يُنهَى سفيهكم
إن السفيه اذا لم يُنهَ مأمورُ
وهذا يبيّن مسؤولية العالِم (إذا كان عالمًا) بواجبه الأخلاقي تجاه السفهاء!
وفي نحوه يقول شاعر آخر:
فإن أنا لم آمُرْ ولم أنْهَ قائلاً
ضحكتُ له كيما يلجُّ ويستشري
وقال لَقيط بن زُرارة (وهو شاعر جاهلي):
أغرَّكُمُ أنِّي بأحسن شيمةٍ
بصيرٌ، وأنِّي بالفواحش أخرقُ
وأنك قد فاحشتني فقهرتني
هنيئًا مريئًا، أنت بالشرِّ أحذقُ
فليت الإسلاميين اليوم يتعلمون من هذا الجاهلي!!

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store