Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

الأستاذ الجامعي.. بين الاستقطاب والاستبقاء

تحفل أدبيات التعليم العالي بالعديد من المصطلحات (الرنانة) التي تحتاج في كثير من الأحيان إلى مزيد من الإيضاح للقراء الكرام، فالاستقطاب: هو البحث الجاد عن كفاءات متميزة متخصصة من حملة الشهادات العليا من

A A
تحفل أدبيات التعليم العالي بالعديد من المصطلحات (الرنانة) التي تحتاج في كثير من الأحيان إلى مزيد من الإيضاح للقراء الكرام، فالاستقطاب: هو البحث الجاد عن كفاءات متميزة متخصصة من حملة الشهادات العليا من خارج وداخل المملكة، ومحاولة ضمهم ككوادر وكفاءات علمية إلى المؤسسات الأكاديمية (الجامعات)، وذلك بتقديم عروض مالية مغرية وإمكانات بحثية متقدمة في تخصصاتهم، أما الاستبقاء: فهو المحافظة على تلك الكفاءات والكوادر التي تم ضمها و(استقطابها) إلى هذه المؤسسة أو تلك، وبذل كل الجهود لذلك. ومن تلك الجهود تقديم المزيد من الحوافز المالية (التنافسية)، والمزيد من الدعم البحثي الفني والمالي لمواصلة أبحاثهم ودراساتهم.
كل ما تقدم ليس بالأمر السهل، وتكمن المشكلة أو الصعوبة في أمور عدة منها:
* وجود الكفاءات المتميزة علميًا وبحثيًا وأكاديميًا، مع توفر الرغبة الصادقة لتلك الكوادر للانخراط الحقيقي والجاد في الممارسة الأكاديمية، هناك الكثير من أولئك المخلصين والجادين من الجنسين، السعوديين وغير السعوديين الذين يطمحون أن يكون لهم إسهام واضح ومميز في أن يصبحوا جزءًا من منظومة التعليم العالي في السعودية، ولكن..!
* نوعية ومقدار الحوافز المالية والبحثية وغيرها التي توفرها المؤسسات الأكاديمية، ومدى استقرارها واستمرارها، وتمثل هذه النقطة قلقًا وهمًّا دائمين لكل من يُفكِّر في الالتحاق بالجامعات أو الاستمرار فيها، خصوصًا لمن ارتبط بأبحاث مهمة ويلزمه وقت طويل لإتمامها وقطف ثمارها.
* تعدد وتنوع المغريات المادية من الجهات غير الأكاديمية، التي برغم أنها قد تخدم خطط التنمية على المستوى الوطني، لكنها تنافس وبشدة مؤسسات التعليم العالي التي تعاني من ندرة مثل تلك الإمكانات ابتداءً.
لكل ما ذكرت من الصعوبات وغيرها، فإن العديد من الجامعات بدأت تشهد ظواهر عكسية تهدد استمرار واستقرار العملية التعليمية في الصميم ومنها:
أولاً: عدم إقبال العديد من تلك الكفاءات على الالتحاق بالمؤسسات الأكاديمية، والزهد فيما تقدمه من حوافز مالية وبحثية، وتصريح العديد منهم وخصوصًا في (أيام المهنة) بأن الرواتب الأساسية لأساتذة الجامعات ضعيفة، وأن الزيادات المقدمة على شكل (بدلات) لا يمكن الوثوق باستمراريتها، حيث يمكن سحبها أو إلغائها في أي وقت وبدون سابق إنذار.
ثانيًا: العديد من الكفاءات العلمية المشهورة دولياً في تخصصاتها من غير السعوديين يتقاضون أعلى من (كل) ما تقدمه مؤسساتنا الأكاديمية من رواتب وبدلات مالية وهم في بلادهم. عليه فليس هناك من رغبة لديهم للتضحية بما هم فيه من أوضاع مادية واجتماعية مستقرة.
ثالثًا: أصبحت ظاهرة (تسرب الكفاءات السعودية) من الجامعات حديث المجالس وبدلاً من تصاعد أعداد من يتم استقطابهم إلى الجامعات، بدأنا نلاحظ بقلق من يغادرون الجامعات، ولاشك أن من يلتحق بإحدى المؤسسات الوطنية الأخرى من غير الجامعات، سوف يستمر إسهامه في خدمة الوطن بطريقة أو بأخرى، لكن هذا لا يساعد الجامعات البتة في أداء رسالتها كما يجب، وكما أريد لها ابتداءً.
إن ظاهرة تسرّب أعضاء هيئة التدريس من الجامعات ظاهرة عالمية تعاني منها العديد من الدول، وتسجلها في تقاريرها السنوية، لكن المبرر أن أوضاع تلك الدول المالية الصعبة وغير المستقرة، هي التي فرضت على الجامعات أن تنتهج سياسة التقشف، لكن من المؤكد أن هذا ليس هو وضعنا في المملكة، ولا يمثل مشكلة في الوقت الحالي.
لقد خطت الدولة خطوات جبّارة وغير مسبوقة في إنشاء العشرات من الجامعات الحكومية، بل وأنفقت على تأسيس مدنها الجامعية عشرات المليارات من الريالات، وهي نقلة مشهودة ومشكورة، لكن المرجو أن نعي جميعًا أن ثمن استمرار وتميز كل تلك المرافق، هو الدعم المالي المتواصل وخصوصًا للكوادر البشرية، لكي نعطي الجامعات الفرصة الحقيقية حتى تقدم رسالتها على أكمل وجه. وأجزم أن الجميع يدرك أن الاستثمار الحقيقي في الجامعات هو في "المُكوّن البشري المميز"، وهم كما نعلم عملة نادرة، وقلّما تتمكن الجامعات خارج المملكة من استقطابهم إلا بكسر كل الحواجز الروتينية المالية منها والإدارية، لذلك لابد أن نمتلك زمام المبادرة بكل طيب خاطر، بل بحماس وقناعة.
إننا كثيرًا ما ننتقد جامعاتنا في عدم تقدمها في التصنيفات الدولية للجامعات! لكن ليكن معلومًا للجميع أن ما يقارب نسبته من 40 إلى 50% من درجات تلك التصنيفات يتم الحصول عليها اعتمادًا على نوعية الكوادر البشرية من أعضاء هيئة التدريس والباحثين في الجامعات ونتاجهم العلمي والبحثي، بل إن إحدى تلك التصنيفات تضع 50% من الدرجة على الأساتذة الجامعيين الحائزين على جائزة نوبل أو مثيلاتها من الجوائز.
أتمنى أن ندرك جميعًا أن الكوادر البشرية الأكاديمية تمثل خطًا متقدمًا من خطوط التنمية الوطنية، الذين لا يمكن بأي حال من الأحوال معاملتهم كأرقام في دوائر التوظيف أو الدوائر المالية، بل هم السند والضمانة الحقيقية لعملية تعليمية أكاديمية راقية ومتميزة لجامعات تقدم الوعي والمعرفة كما يريدها ولاة الأمر لمئات الآلاف من أبنائنا وبناتنا الطلبة، الذين يعز علينا أن نغامر بمستقبلهم ومستقبل الوطن، بما نراه يمارس الآن من تكوين لبيئات طاردة عنوانها: المكافآت والحوافز المتقطعة أو غير مضمونة الاستمرار.. وبالله التوفيق.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store