Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

برحة الرستمية.. وأصوات من الماضي البعيد!!

No Image

* في برحة الرُّستمية يقتعد كرسيًّا بعيدًا عن ذلك الجمع من المزوِّرين، وتتهادى إلى مسمعه أصواتهم وهم يحتسون كؤوس الشّاي.

A A

* في برحة الرُّستمية يقتعد كرسيًّا بعيدًا عن ذلك الجمع من المزوِّرين، وتتهادى إلى مسمعه أصواتهم وهم يحتسون كؤوس الشّاي. يحسُّ الفتى أنّ البهجة تملأ نفوس القوم؛ بل إنّ مزاحهم البريء، وضحكاتهم المنبعثة من دواخلهم تُشعر الآخرين - وخصوصًا أصحاب الحوانيت المتناثرة على أطراف الحارة- بأنّ هموم الدُّنيا لم تعرف طريقًا لقلوبهم.. وبتعبير بلدي آخر "قلوب خضراء"! ويقوم أحدهم من مقعده، شابٌ طويل القامة، يمتزج البياض مع شيء من السُّمرة في عروق وجهه، ويقصد مجلس المعلم "طيفور"، ثمّ يمازحه على طريقته قائلًا: "طيب يا مُعلّم، أنتم الكبار لكم أساليبكم الخاصّة بكم والتي لا يعرفها إلا القليلون".
- "يا واد ترى أبوك كان صاحبنا".
يبتسم المعلّم وهو يملأ رئتيه بدخان الحُمِّي، الذي يدعونه "الغيلي"، ثمّ يترك انبعثات ذلك الدُخان أو زفراته تأخذ طريقها إلى خارج أنفه وفمه حتّى تصعد منعقدة إلى الأعلى في فضاء المكان، وهو يرمقها بنظراته الحادّة.. وينصرف الجمع مع ارتفاع أصوات الأذان من منائر المسجد الطَّاهر، ثمّ يقوم المعلّم ويتوجّه إلى ذلك الفضاء الفسيح الذي تسكنه شخصيات ذات سحنات مختلفة، ويسأل الفتى نفسه كيف ومتى أتى هؤلاء إلى هذا المكان وعلى أيّ شيء يقتاتون؟ ولعله لمح وجهًا تبين من ملامحه أنّه كما يعبّرون "من الحاضرة"، لونه يميل إلى السُّمرة، وملابسه مختلفة بعض الشيء، فهو يرتدي ثوبًا من الشّاش الأبيض، ويضع نظَّارة يرتبط طرفاها بأذنيه، سمعهم ينادونه بـ"المعلّم حجازي". ترى هل قدم آباؤه من الجنوب ثمّ استقرّوا كما استقرَّ أجداد لنا من قبل في هذه البقعة، التي عُرف أهلها بالتّسامح والاحتفاء بالغريب والبعد عن العنعنات العرقيّة التي لم نعرفها إلا من بعد، وأنّها لتنخر اليوم في كياننا من حيث نعلم أو لا نعلم.. المعلّم "حجازي" يعيش في واحدة من تلك الغرف التي تضاء ليلًا بما كان يعرف في الحقبة المنصرمة من وسائل الإضاءة بـ"اللمبة"، ثمّ جاءت طاقة الكهرباء، واختفت اللمبة ومعها الإتريك إلى الأبد.
* يؤرّقه السّؤال؛ وإن شئت فقلْ يا صديقي الفُضُول، بل وأنهك قواه البحث عن المجهول، فسأل أحدهم عن هذا الرّجل، قالوا له إنّه من سكّان حيِّ "العنبّرية"، وصَنعتُه تطييب الخبز البلدي، وأنّ انتقاله من حيّه الأصلي إلى حارة الأغوات وسكناه في الرُّستمية، سببه أنّه فقد زوجته التي كانت على قدر كبير من الجمال، فطوى نفسه على جرح غائر، وحزن عميق، لذلك فهو قليل الكلام، لكنّه يتحدّث بين الفينة والأخرى للمعلّم، ولاحظ الفتى أنّ "حجازي" هذا حادٌّ في طباعه، لا يطيق الأسئلة التي تتجاوز دائرة "صنعته"، يقوم الرّجل مع الأذان الأوّل وقريبًا من الوقت الذي يخرج فيه الأغوات "جاه الله، الزّين، عبدالسّلام الضّو، بلال، فرد ستيته، نصر الله،
ومحمّد قرآني" من منازلهم ويذهبون للقيام "بالنُّوبة" الخاصّة بأحوال المسجد وتنظيفه وتهيئته، ثمّ يتوجّه هذا الرّجل إلى مخبزه القريب من حانوت المعلّم "فرغلي"، ويأخذ - وهو في تلك السنّ المتقدمة - في تهيئة وإعداد "دُرجات" العجين، مستعينًا في صنعته هو الآخر ببعض العُمّال المجاورين، ولا يخرج القوم بعد انقضاء صلاة الفجر حتّى تكون "الطَّابونة" قد أنضجت خبزًا من الحبِّ الخالص، الذي أزعم أنّني لا أجد اليوم مثيلًا له، ويتناقل الناس خبر خبز حجازي، فيبعثون من يشتري لهم حبّات منه.
* الحاجان عبدالله والنُّور، اللذان سمع الفتى أنّهما كان يعملان في شبابهما جنودًا في بلد السُّودان، يتوكّأ كلٌّ منهما على عصاه ثمّ يقفان عند مخبز المعلّم، ولقد طُبعت أخلاق أهل الجوار على اختلاف وتباين في أمزجتهم على تبجيل الكبير في السنّ، ومراعاة صاحب الحاجة، فيقوم المعلّم، وقد بلغ السبعين من العمر أو حولها، من مكانه ويأخذ أقراصًا من الخبز ويقدّمها للرّجلين، ومن ثمّ يتوجّهان لرباط المظفّر، القديم في بنائه، ربّما يعود إلى القرن الثّامن الهجري كما كان منقوشًا على بابه.
* وإذا كانت الحارة قد احتضنت "الغرباء" الطيّبين، وصهرتهم في بنائها الإنساني، حتّى أضحوا جزءًا أصيلًا منها، فإنّها كانت ترفض الغريب الذي لا يلتزم بآدابها، ففي ضحى يوم تسلّل أحدهم، ونزل درج "العين" التي كانت تتوسّط الحارة، فشاهده أحدهم ونهره، ولكنّه لم ينزجر، فأمسك الشاب المليء قوّة ونشاطًا بعصاه، ونزل إليه عند منابع العين، وطلب منه مغادرة الحيِّ، ففعل الغريب، وظلّ الفتى في الذّاكرة الشّعبية رمزًا للشّهامة والمروءة في حيّه وبين بني قومه؛ ولكنّ النّاس أصبحوا ذات يوم على خبر هزَّ أرجاء الحيِّ، فلقد امتدت يد الغدر إليه، وكان في اللّحظات الأخيرة من حياته يتنفّس بصعوبة، ويقول بالعبارة العامية المشهورة، والتي تضرب مثلًا في حالة استنكار القبيح من الأفعال: "يخْس عليهم"، وبكت الحارة رمزها، وودّعته في جمع مهيب؛ ولكنّ الحزن ظلَّ يُخيّم على كلِّ زقاق ومنعطف فيها.
* ولعلّ صديقي وجليسي وأنيسي في الحارة السّفير السيّد أسامة السّنوسي، سألني قبل وقت قصير: ترى متى نقرأ الحلقة الثانية عن الطيبين في الرستمية.. وها أنا اليوم أوفيِّ معه؛ لأنّه صنع الجميل وحفظه، في الوقت الذي نسي فيه الآخرون، فما زال أبو أحمد يتذكّر، وربَّ ذكرى قربّتْ من نزحا.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store