Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

الأستاذ الجامعي.. مهنة للحياة

بينما كنت أجلس في مقعدي في الطائرة المقبلة من جازان، بعد حضوري لاجتماع حول المستشفيات الجامعية، استضافته جامعة جازان، والتي يحق لها ومنسوبيها ولمديرها أ. د.

A A
بينما كنت أجلس في مقعدي في الطائرة المقبلة من جازان، بعد حضوري لاجتماع حول المستشفيات الجامعية، استضافته جامعة جازان، والتي يحق لها ومنسوبيها ولمديرها أ. د. محمد آل هيازع أن يفخروا بجامعتهم وبما تنجزه على مدار الساعة من إنجازات علمية وأكاديمية وبحثية وبُنى تحتية.
أقول وأنا أُودِّع جازان، وكنت قد نويت أن أكتب عن المستشفيات الجامعية كتجربة مميزة ومهمة تتبناها وزارة التعليم العالي، بادرني جاري في المقعد بالسؤال: هل أنت من جامعة جازان؟! أجبته بـ"لا"؛ ويسعدني أن أكون من منسوبيها، لكنني أنتسب إلى جامعة أخرى.. وتتابع الحديث حتى فجّر المفاجأة التالية قائلا: أعذرني يا دكتور، أعرف أن هناك عشرات الآلاف من المبتعثين خارج المملكة، سيعودون قريبًا، وأرى أنه يجب أن يترك الساحة الأكاديمية ممن هم فيها الآن عند بلوغهم الخامسة والخمسين إلى الستين، وذلك عن طريق "التقاعد الإلزامي"، وإلا كيف سنستطيع استيعاب كل تلك الخبرات الوطنية القادمة إلى البلد؟!.
لاشك أن لسؤاله واقتراحه جانب يستحق التفكير والدراسة، لكن يبقى السؤال: هل اكتفت الجامعات من الأساتذة السعوديين وغير السعوديين؟ وهل حققت النسب المتعارف عليها عالميًا لنسبة الأستاذ إلى الطالب في كافة التخصصات؟ أم لا تزال تعاني من عجز سيطول أمد تسديده وتحقيق الاكتفاء في الموارد البشرية.
أعود لفكرة التقاعد المبكر والتقاعد الإلزامي، بل وفكرة التقاعد عمومًا هل هي معقولة ومقبولة عند الأكاديميين أم أن الأمر على خلاف ذلك؟، في مقال نشرتهThe Chronicle of Higher Education، في عدد شهر نوفمبر 2014 م، للكاتبة أوري فندريتش A Fendrich وزملاؤها، بعنوان: "التقاعد بكرامة: ليس بالكثير الذي يُطلبDignity in Retirement Is Not Too Much to Ask"، لاشك أن العنوان بحد ذاته يشير إلى توجّه الكاتبة حيال موضوع التقاعد، ويدور الحديث بين فريقين، فريق يرى أن الأستاذ الجامعي يجب أن يتقاعد في وقته النظامي، وأن يقطع صلته بالحياة الأكاديمية تدريسًا وبحثًا وإرشادًا طلابيًا، وفريق آخر يرى أن يستمر الأستاذ الجامعي مدى الحياة بكافة التزاماته وواجباته الأكاديمية، بل إن بعض المنادين بذلك ماتوا وهم ما يزالون يمارسون كل تلك المهام إلى آخر لحظة في حياتهم!، هناك طرف ثالث وهو المسؤول عن تطبيق النظام، الذي غالبًا ما يجنح إلى تطبيقه حرفيًا على من بلغ سن التقاعد "النظامي"، وكأنه لن يتقاعد في يوم من الأيام قريب!
عالميًا هناك منظمات وجمعيات -أمريكية وأوروبية- تُعنى بشؤون المتقاعدين، وذلك قبيل تقاعدهم وفي المرحلة الأولى من التقاعد وما بعد ذلك، في كتاب لديفيد هيينان David Heenan بعنوان: المغادرة وأنت في القمة: الخروج المشرّف للقادة Leaving on Top:raceful Exits for Leaders: يحدد بعض النقاط التي قد تكون حلولاً لفكرة التقاعد المباغت والنظامي، من أهمها:
1- تقوم بعض الجامعات بتنظيم دورات وورش عمل تدعو لها من قارب السن التقاعدي، بحيث يشارك في إدارتها متقاعدون نشطون من داخل الجامعة وخارجها، يقومون بتعريف الحضور بالأمور الإدارية والمالية والاجتماعية والنفسية المتعلقة بالتقاعد، والفرص المتاحة لإبداع المتقاعد داخل جامعته أو خارجها، وفي تخصصه أو خارجه، وقد لوحظ الأثر الإيجابي لتلك الورش في تفهم الحضور لما تحويه المرحلة المقبلة من فرص كثيرة وصعوبات يمكن تخطّيها.
2- التحضير أكاديميًا للتقاعد بإيجاد "فترة انتقالية أكاديمية"، بحيث تخفف الأعباء الأكاديمية تدريجيًا عن الأستاذ الذي ينوي التقاعد، فيما يسمى بـPhased Retirement Program.
3- التكريم والاحتفاء الدائم بالأساتذة الذين بلغوا السن التقاعدي ومازالوا نشطين في أدائهم، مع عدم الاقتصار على حفل تكريمي منقطع ويتيم، يوحي لهم أن هذه هي النهاية.. ويكفي ما قدمتم!، بل يجب الحرص الشديد على وجودهم في كل مناشط الجامعة واحتفالياتها، والإشارة الدائمة لهم بالبنان على ما قدموه للجامعة.
4- الاستفادة ممن يرغب ويستطيع من المتقاعدين في الدعم الدائم للجامعة وأنشطتها المختلفة، من خلال برنامجLife Coaching Program، الذي يستبقي النشط والمتميز منهم في قلب الحدث الأكاديمي وبصفة مستمرة، وذلك للأساتذة والطلبة وقيادات الجامعة المختلفة، بل إشراكهم في مشروعات ذات مردود مادي كالبحوث التطويرية مثلاً.
5- تمكين المتقاعدين من الوجود الفعلي في الحرم الجامعي، وتوفير مقر دائم لأنشطتهم غير الرسمية، التي لا ترتبط بالجامعة إلا من خلال التنسيق، والسماح لهم بالقيام بالعديد من الأنشطة الثقافية والاجتماعية والدعم لأعمال الجامعة وأنشطتها الأكاديمية والبحثية، حسب ما تقترحه قيادة الجامعة.
إنني أعلم مثل غيري، أن هناك العديد من الأنظمة التي تحدد السن القانونية للتقاعد، وما يترتب على ذلك من واجبات وحقوق للمتقاعد والجامعة، لكنها في نظري يمكن أن تكون جافة وقاسية جدًا على من أمضى ثلاثين أو أربعين عامًا من عمره في خدمة الجامعة وأهدافها وأعمالها، خصوصًا لأساتذة قدموا للجامعة خدمات جليلة وعظيمة، إدارية وبحثية وتطويرية وتدريسية، إن مقولة فندريتش Fendrich "أساتذة للأبد Forever Professors" لها نصيب كبير من الصحة. إن كل الكوادر الأكاديمية التي تعمل اليوم في الجامعات، سيستمر عطاؤها متميزًا، ومعنوياتها مرتفعة، إن وثقت أن الجيل القادم سيحافظ عليهم وعلى عطاءاتهم -بحسب قدراتهم الصحية- وأن الأجيال القادمة سوف تحتفظ بالجميل لمن سبقوهم، بل ويرعونهم ما بقوا أحياء، أقول: إن أدركنا ذلك، فإن خصلة الوفاء المتجذرة فينا وفي ثقافتنا وديننا سوف لن تخبو، وسيبقى الوفاء والعطاء متلازمين في جامعاتنا، وسيعمل الجميع لعطاء وإبداع بلا حدود مدى الحياة.. وبالله التوفيق.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store