Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

النّزوح والظَّمأ.. والمنابع التي اندثرت

No Image

* يجلس وحيدًا وبعيدًا عن مقاعد أولئك الفتية الذين يحتسون كؤوس الشّاي فرحين بذلك الجُعل الذي منحهم إيّاه القومُ الذين جاءوا طالبين من ربِّ العباد شفاعة نبيّه سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وكلّم

A A

* يجلس وحيدًا وبعيدًا عن مقاعد أولئك الفتية الذين يحتسون كؤوس الشّاي فرحين بذلك الجُعل الذي منحهم إيّاه القومُ الذين جاءوا طالبين من ربِّ العباد شفاعة نبيّه سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وكلّما دنت الشّمس إلى المغيب تسلّل الفتية تباعًا من «البرحة» وقصدوا موضع «العين» التي يتدفّق ماؤها منذ أزمان بعيدة، وكانت إذا ما جرت السُّيول في العقيق أو العاقول أو أبو جِيدة امتلأت تلك العيون، التي كانت تنتشر في وسط البلدة الطّاهرة أو في أطرافها. وكانت عين حارة الأغوات واحدة من تلك العيون التي اندثرت بعدما بسطت الحضارة المادية سلطانها - إن صحَّ التّعبير - على كلّ شيء، بحيث لم يبقَ شيء من معالم المدينة القديمة، والتي تميّزها عن غيرها من باقي المدن، حتّى إذا ما ارتفع صوت المؤذّن نديًّا من المنارة التي كان يُطلق عليها «الرئيسية»، عاد الفتية إلى صُفّة المسجد، ثمّ تفرّقوا بعد انقضاء الصّلاة سالكين دروب سويقة والعينيّة والسّاحة.
* وقد طبعتْ البساطة والعفويّة حياة القوم، وكثير منهم جاءوا من أقاصي الأرض، وكانت الحارة، التي انجذبت نفسُ الفتى لها منذ يفاعته، من أكثر الأحياء تجسيدًا لمعاني الأخوّة والمودّة؛ حيث تنمحي الفروق بين غنيٍّ وفقيرٍ وصاحب جاهٍ ومنزلة وآخر رضي بالخمول والنّأي بالنّفس عن مظاهر البروز، موقنًا بأنّ النّاس سوف يتساوون عندما تدركهم المنايا، ويُحملون على الأكتاف، حيث يحثوا الأقاربُ والآباء على أجسادهم التّرب.
* في الحارة تنتشر الحوانيت التي يقصدها سُكّان الحيّ للتزوّد منها بما يحتاجون، ولعلّ ما لفت نظر الفتى أنّ أصحاب هذه الحوانيت ينتمون لأعراق مختلفة ومواطن متباعدة؛ فهذا حانوت «فيّاض الكحيلي»، وبجانبه حانوت «الأخضر الجزائري»، وأمامه حانوت صغير يجلس فيه فتًى تعرّف عليه من صديقه «الزّين»، وكانت عائلته تسكن حيَّ «ذروان»، نسبة إلى البئر التاريخية منذ عهد النّبوّة، والمنفتح من جهته على برحة الرّستمية، والمنفتح من جهة أخرى على ما كان يُعرف باسم «درب الجنائز». ونزح الفتى من مدينته لبواعث عدّة، ولم يعد يسمع شيئًا عن صديقه النَّقيِّ «بكر عبدالحفيظ»، الذي كان من أبرز سماته الهدوء، وتكاد شؤون حياته تنحصر بين الحانوت وصُفّة المسجد ودارهم في «ذروان».
* ولمح الفتى في الطّريق المؤدّي إلى البقيع شابًا قد اختار مهنة الصّياغة، وكان ينكبّ في حانوته على صناعة ما يفضّل شباب تلك الحقبة من لبسه في أيديهم من خواتم العقيق وسواه، وعرف الفتى فيما بعد أنّ الفتى ينتسب لأسرة علم؛ فجدّه هو الشّيخ «يونس»، الذي كان يتنقّل آنذاك مجاورًا بين المدينتين المقدستين.
واختفى فجأة الشّاب الذي كان يمتلئ حيوية ونشاطًا، فهمس أحدهم في أذنه بأنّ داءً قد أصابه، وكان الفتى يقطع الطّريق يومًا من «البرحة» ودار رفيقه «الزّين»، فلمح ذلك الفتى الفارع الطّويل، والذي كان لا يفارق حانوته بحثًا عن لقمة العيش الحلال، فأصابه شيء من الذّهول، فلقد ذبل ذلك الجسم الذي كان ينضح بماء الحياة، وتحوّل إلى شبح يمشي على قدميه، وقد ارتسمت على محيّاه علامات الضّعف والإنهاك الشّديدين.
وجاء الفتى يومًا كعادته إلى «البرحة»، فإذا بأحدهم يخاطبه قائلاً: «أعطاك أحمد يونس عمره»، وردّد في نفسه ما سمع القوم يهتفون به في الزاوية: «يا مَنْ في الآفاق آياتُهُ، يا مَنْ في الممات قدرتُهُ، يا مَنْ في القبور قضاؤُه، يا مَنْ في القيامة مملكتُه، يا مَنْ في الحساب هيبتُه».
* وفقدت الحارة واحدًا من شبابها الذين كانوا مثالاً نادرًا لـ»ولد الحارة» الشّهم، الذي لا يرفع بصره إلى «روشان» جيرته، غيرةً على أعراضهم، وصونًا وحماية لفتيانهم وفتياتهم.
* يا صديقي الذي ارتوت نفسُه من نبع الفضيلة، وتوطّنت أعماقه مُثُلُ النّخوة والشّهامة، يا نائيًا بالفطرة عن دروب الخَنَى، ومرتديًا أثواب الطُّهر والعفّة، حدّثني بالله عليك عن الألسنة التي كانت تحفظ غيبة الآخرين وتذود عنهم، واتْلُ على مسمعي أناشيد الحبِّ والصّفاء، واسلُكْ بي الدّربَ بين العنبريّة والمناخة وسويقة، لأتملّى وجوهًا نضرةً قد كساها الربُّ هيبة وجلالاً، ورزقها من حلاوة اليقين ما جعلها تعيش بأجسادها فوق الأرض؛ بينما كانت أرواحها تُحلّقُ في عوالم الملكوت.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store