Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

جامعاتنا السعودية.. بين الكيف والكم

تمثل وجهة نظر المجتمع ورأيه وتقييمه للتعليم العالي، أحد أهم الأسس التي يبني عليها صانع القرار الكثير من قراراته.

A A
تمثل وجهة نظر المجتمع ورأيه وتقييمه للتعليم العالي، أحد أهم الأسس التي يبني عليها صانع القرار الكثير من قراراته. لكن المجتمع يحتاج لأن يكون جاهزًا للمشاركة الإيجابية في ممارسة دوره، وإلاّ أصبح أداة ضغط في قضايا يجهلها، أو يجهل بعضًا من كوامنها أو ربما يكون لديه تصور خاطئ عنها. لذلك فقد يضطر صانع القرار تحت إلحاح المجتمع أو بعض من شرائحه، إلى مجاراة المجتمع ومحاولة استرضائه، وكم كان لمثل تلك الممارسات من آثار سلبية على سياسات وقرارات التعليم العالي.
أردتُ من هذه المقدمة النظرية التمهيد لأثير قضية الكيف والكم في التعليم العالي ومؤسساته، وكيف أن بعض القرارات قد لا تُبنَى على أساس علمي أو دليل خالص! لكن الكثير من الاعتبارات غير العلمية قد تصاحبها وتؤثر في صنع القرار النهائي. لتوضيح ذلك دعوني أطرح بعض القرارات التي تصدر عن التعليم العالي وصناع القرار فيه، وقد تخضع لتلك الضغوطات فمثلا:
• استحداث الجامعات الجديدة أو فروع الجامعات، وتحديد المناطق التي تقام فيها جغرافيا.
• نوع الجامعة المستحدثة: هل هي جامعة شمولية أم بحثية أو تدريسية أم جامعة متخصصة.
• الكليات والتخصصات والأقسام التي سوف تضمها تلك الجامعة المستحدثة.
• أعداد الطلبة في كل جامعة عمومًا، خصوصًا الذين يُقبلون في كل سنة من خريجي الثانوية العامة.
قبل أيام دار نقاش مع مجموعة من المهتمين بالتعليم العالي يمثلون شرائح المجتمع المختلفة، وقد تركزت حواراتهم حول قضايا ذات علاقة بما حددت أعلاه كأمثلة. ومما ذكِر: لقد تجاوزت الوزارة الحدود في إنشاء ثلاثين جامعة (حكومية وخاصة) وزيادة، وكأن الجامعات تحوّلت إلى ثانويات مطوّرة! ورد آخر مشددًا على أهمية زيادة أعداد الجامعات لكي تستوعب كل خريجي الثانوية العامة، مبررًا ذلك بقوله: "إن ذلك القبول سوف يضمن أن لا ينحرف الشباب فيما لو لم يلتحقوا بالتعليم العالي"، وتابع ثالث قائلًا: المهم أن يفتح ضعف عدد كليات الطب تحديدًا، فنحن بحاجة إلى أضعاف أعداد الأطباء السعوديين الموجودين حاليًا كممارسين، بل وأكد على أهمية التساهل في تعليمهم وتخريجهم بأسرع وقت لسد الحاجة لخدماتهم. مما جعلني أتعجّب أن وجدت قبل أيام عِدّة، أن أحد كُتَّابنا المرموقين يُروّج للتساهل في تخريج الأطباء، حتى نصل لسد الحاجة ثم نتشدد بعد ذلك!
بعد ذلك انتقل النقاش إلى الحديث عن أي التخصصات يحتاج المجتمع. سارع أحد الحضور للتأكيد على أهمية إقفال كل الكليات، عدا التخصصات الطبية والهندسة والعلوم واللغة الإنجليزية والحاسب. مبررًا ذلك بنغمة سمعها من الكثير من كُتَّابنا الأفاضل "أننا نريد فقط من الجامعة أن تُخرِّج ما يحتاج إليه سوق العمل، ونقفل ونلغي ما عدا ذلك من كل التخصصات"!. لقد كان هذا شيء من نبض المجتمع حيال التعليم العالي، وبلا شك تأثيره على صناعة القرار فيه.
لعلي أؤكد على بعض النقاط التي تجعل من تعليمنا العالي يهتم بالكيف والكم في آن واحد. دونما تعارض بل بصفة تكاملية:
• نبض المجتمع ونظرته لحاجاته وطلباته من التعليم العالي، يجب أن تكون محل التقدير والاهتمام ومن المهم الاستماع إليها، لكن يجب أن تؤخذ بمقدارها، فلا تلغى أبدًا ولا تتعدّى حدود الدور المنوط بها. وفي ذلك يشترك كُتّاب الرأي والإعلاميين والاقتصاديين وأرباب العمل في القطاعين العام والخاص. فالتهميش مرفوض، لكن في نفس الوقت تجاوز الدور المهم والمطلوب كذلك مرفوض.
• يجب أن تتطور الدراسات التخطيطية والتطويرية للتعليم العالي، لتواكب حاجات المجتمع وتلبية رغباته من ناحية، كما ويجب أن تواكب خطط التعليم العالي المقاييس العالمية في أعداد الطلبة سواءٌ للجامعة أو أعداد المقبولين سنويًا فيها. بل يجب النظر في آليات استحداث الجامعات ومواءمتها مع المعايير العالمية الموثوقة. فمثلا من المعايير (جامعة لكل خمسمائة ألف مواطن) بينما واقع الحال لدينا جامعة لكل مليون مواطن.
• خلافًا لما تعوّد عليه المجتمع من وجود نوع واحد من الجامعات، وهو الجامعات الشمولية (ذات التخصصات والكليات المتعددة)، فإنني أعتقد أن مجتمعنا ما يزال بحاجة لها، لكنه بحاجة أشد إلى جامعات ذات مواصفات أخرى؛ كالجامعات التقنية والمتخصصة، والجامعات البحثية والجامعات التدريسية. ومن المهم تنوير المجتمع حيال هذه الأنواع المختلفة وأهمية وجودها وأهمية التحاق شريحة كبيرة من الطلبة بها.
• أما قبول كل خريجي الثانويات العامة، وهو ما استقر في أذهان أفراد المجتمع، فهو موضوع يجب أن يعالج بالتثقيف من ناحية، مع السعي والإقناع لتوفير البدائل المناسبة والجاذبة في آنٍ واحد، حيث إن الكليات الجامعية التقنية التي ترتبط بالتعليم العالي، أو حتى بالجامعات التقنية، كما هو الحال في بلاد مثل أمريكا وألمانيا، قد تُمثِّل بديلًا مقنعًا للطلبة، وليس التعليم المهني بواقعه الحالي، الذي لا يستهوي المجتمع، بالرغم من وضع الكثير من مساحيق التجميل عليه لتغطية ضعفه وعيوبه.
خلاصة القول: إنني أعتقد أن الكم: ممثلًا في زيادة الجامعات المتنوعة التخصصات مطلب يجدر بنا ألا نتخطّاه ونهمله. كما وأن الكيف كذلك مطلب مهم وملح، ومن أمثلته تقليص أعداد الطلبة من أرقام تتخطى الخمسين ألف، إلى ما دون ذلك؛ لتجويد العملية التعليمية. كما وأن مجاراة سوق العمل مطلب، ولكن مع الاهتمام بكل التخصصات، حتى تلك التي لا تظهر أهميتها لقصيري النظر.
إنني أعتقد أنه لا حيرة ولا تردد من تأكيد القناعة بأن الكم والكيف يتساويان في الأهمية حين يصنع القرار من قيادات التعليم العالي مسترشدين بالنظرات والرؤى المتزنة والحكيمة من المجتمع بشرائحه المختلفة الذين هم بلا أدنى شك الشركاء في صناعة القرار والمستفيدون من نتائجه.. وبالله التوفيق.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store