Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

حجاب النسيان من الأفغاني إلى الجهني والخزندار

No Image

* حدّثني أحد المشتغلين بصناعة الكلمة أنّ المثقّف والأديب عابد خزندار لم يلقَ تكريمًا في حياته، كما أنّه رحل في صمت، ولم يُشاهد في جنازته إلا نفر محدود من المشيّعين؛ فأجبته بأنّ «عابد» لم يكن وحده ا

A A

* حدّثني أحد المشتغلين بصناعة الكلمة أنّ المثقّف والأديب عابد خزندار لم يلقَ تكريمًا في حياته، كما أنّه رحل في صمت، ولم يُشاهد في جنازته إلا نفر محدود من المشيّعين؛ فأجبته بأنّ «عابد» لم يكن وحده الذي لاقى هذا السّلوك من النّسيان؛ ففي زمن النّشأة في بلد المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، وكان ذلك في بداية الثمانينيات الهجرية، شاهدت رجلاً يمشي مضطربًا، فسألت عنه من باب الفضول، فقيل إنّه كاتب القصّة المعروف الأستاد محمّد عالم أفغاني، أحد محرّري مجلّة «المنهل» عند صدورها في المدينة المنورة (ذي الحجة) 1355هـ فبراير 1937م على يد الرّائد والمؤرّخ المعروف عبدالقدّوس الأنصاري - رحمه الله -، [انظر ترجمته في معجم المطبوعات العربية في المملكة العربية، ج3، 7185]، وسألت عنه لاحقًا أستاذنا الأديب محمّد حميدة - شافاه الله - فذكر لي جملة من المواهب التي كان يتمتّع بها، وأنّه كان من القلّة التي تجيد بمهارة فائقة لعبة الشطرنج، وكذلك لعبة الكيرم، وأنّه كان صاحب أسلوب ساخر فيما يكتب، واختفى الأديب الأفغاني بعد ذلك وغاب عن ذاكرة الأجيال، إلا من كتاب أخرجه عنه أستاذنا الدكتور محمّد العيد الخطراوي - رحمه الله -، وتضمن شيئًا من إنتاجه القصصي والأدبي، وحمل اسم «محمّد عالم أفغاني من روّاد المقالة، الترجمة، القصة، 1423هـ».
* وقد تعرّفت في أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات الهجرية، على شخصية أدبية فذّة؛ وهو الأستاذ عبدالله سلامة الجهني، وكان لقاؤنا الأوّل في مكتبة عارف حكمت، التي كانت تقوم في الجهة الجنوبية من المسجد النّبوي، وكان قارئًا نهمًا، إلا أنّه اعتزل الحياة بعد رحلة علمية قضاها بين المدينة المنوّرة ومكّة المكرمة والقاهرة وبيروت، وارتبط اسمه بكتاب أصدره مع زملائه من الطّلبة المبتعثين في القاهرة، مثل: عبدالرحمن التّونسي، وصالح جمال حريري، وحمل اسم «طلبة البعثات السّعودية في المرآة، 1374- 1954م». [انظر: معجم المطبوعات العربية في المملكة العربية السعودية، تأليف علي جواد الطاهر، ج2، 88].
* كان الأستاذ الجهني «يجلس في الرّوضة النّبوية وحيدًا، ويجلس في مكتبة عارف حكمت وحيدًا، ويقضي اللّيل في فرش الحجر يقرأ كتاب الله وحيدًا، يحمل حقيبته في يده، عباءته المتواضعة تكاد تشفُّ عن جمسه النّحيل، وأكاد أجزم أنّ الجهني لم يعرف الطعام الفاخر والفراش الوثير، ولا المسكن المتّسع.
عبدالله الجهني - رحمه الله - رائد من أولئك الروّاد الذين إذا جلست إليهم تشعر بأنّك تجلس إلى عالم وأديب وفيلسوف، يقرُّ بالرّأي الآخر، ويعترف به ويمارسه سلوكًا رفيعًا. ولم يكن (الجهني) يعرف الكبرياء، ولا خالطت نفسه مفاهيم الترفّع، لكنها قسوة الحياة، وتفرّق الأحباب من حوله في فترة من فترات حياته جعلته يستأنس بالوحدة، ويرضى بتلك العزلة». [انظر: الفصل الذي تضمنه كتاب «صفحات في تاريخ الإبداع الأدبي بالمدينة المنورة»، تأليف عاصم حمدان، تقديم (نزار مدني) الشركة السعودية للتوزيع، 1422، ص 256 - 257].
* كنت أجد شبهاً بين شخصية أستاذنا الجهني، وشخصية أخرى عرفتها الأجيال السّابقة في المدينة المنوّرة، وأعني الشّيخ أمين الطّرابلسي - رحمه الله -. وكان هذا الرّائد متمكّنًا في العلوم العقلية والنّقلية، وكان من صفوة الأساتذة بمدرسة العلوم الشّرعية، مثل أستاذنا عبدالرحمن عثمان، وأخيه أحمد عثمان - رحمهما الله -، وقد أخذ عن الشيخ الطّرابلسي عدد من المشتغلين بالكتابة العلمية والأدبية، من أمثال: الأستاذ الأديب محمّد عمر توفيق، والراوية الأستاذ محمّد حسين زيدان - رحمهما الله -، كما أخذ الأديب والمؤرّخ السّيد عبيد مدني عن الشّيخ العالم والأديب محمّد العمري الواسطي: 1280 - 1365هـ.
* كان الطّرابلسي يسكن في غرفة في إحدى المدارس القديمة في حي المناخة، وعندما رحل عن دنيانا لم يكن هناك من يرثيه، فلقد بيعت مكتبته في مزاد بسوق (الحراج)، كما أخبرني بذلك المؤرّخ الرّائد الشّيخ جعفر بن إبراهيم فقيه 1320- 1411هـ. وكثير من المكتبات الخاصّة كان مصيرها - لأسباب مختلفة - مصير مكتبة الطّرابلسي.
* ذلك طراز بديع وفريد - وربما لن يتكرّر - من العلماء والمفكّرين والأدباء، الذين أخلصوا للعلم، وعاشوا للكلمة الحرّة والصّادقة، وابتعدوا عن بهارج الدّنيا وزخرفها الفاني. وأزعم أنّ «الخزندار» أديبًا ومثقفًا عاش في صومعته يكدُّ من أجل أن يعيش بكرامة، غير عابئ بصخب الحياة وضجيجها، ولئن نسيتْ منتدياتنا الأدبية والثقافية «عابدًا» في حياته؛ فلنتذكره بعد رحيله، حيث ضمّه ثرى الحجون والمعلاة، وصدق زميلنا أحمد عائل فقيهي عندما وصفه في مقالته بصحيفة عكاظ بأنّه «المسافر بين ثقافتين».

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store